كتب – روماني صبري
تحل اليوم الخميس 17 ديسمبر ذكرى وفاة الراهب الروسي "غريغوري يافيموفيتش راسبوتين"، حيث رحل في مثل هذا اليوم عام 1916، كان يقول انه معالج روحي ولقب بمدمن الجنس، بحسب المؤرخين يقال انه ظهرت له في طفولته رؤى مستمرة عن القوى الإلهية وقدرات الشفاء الخارقة، إذ كان باستطاعته مثلا أن يبرئ حصانا بمجرد لمسه، اكتسب في فترة مراهقته اسم راسبوتين (أي الفاجر بالروسية) بسبب علاقاته الجنسية الفاضحة.
تقرب من الإمبراطورة
وكان رصد القيصر نيقولا الثاني في مذكراته اللقاء الأول براسبوتين في 14 نوفمبر عام 1905 م قائلا: "تعرفنا على غريغوري، من أبراشية توبولساك"، وبنجاحه المعهود مع النساء والشابات ترك راسبوتين انطباعا عميقا لدى الإمبراطورة ألكسندرا فيوديوروفونا، إذ اقتنعت تماماً بقدراته حين استطاع بإعجاز أن يخفف من المعاناة والنزيف الذي أصاب أليكسيس نيكوليافبتش، وريث عرش روسيا المريض بسيلان الدم الهيموفيليا، والذي قد ورثه عن أمه حفيدة فيكتوريا ملكة بريطانيا العظمى، المرض الذي عاني منه ولي العهد ومات به من قبل أخ الملكة واثنان من أبناء الاخوة وخالها، يبدأ بنزيف تحت الجلد ثم يظهر ورم يتصلب يتبعه شلل مصحوبا بآلام شديدة، ولم يمض وقت طويل منذ أثبت راسبوتين قوته الخارقة للأكسندرا حتى أصبح مستشارها الشخصي المؤتمن على أسرارها، يزورها في القصر في موعد أسبوعي محدد.
راسبوتين من مواليد 21 يناير عام 1869 في قرية بوكروفسكوي الريفية الواقعة في سيبريا، قبل أن يصبح مقربا في ما بعد من العائلة الملكية والمجتمع المخملي والأرستقراطي في سانت بطرسبرج.
ولع بالخمر والسرقة
بعدما بلغ راسبوتين الثلاثين من عمره كان زوجا وأبا لأربعة أطفال، إلا أن ولعه بالشراب وسرقة الجياد كان دائما ما يتناقض وأصول الحياة العائلية التقليدية، وكان حادث اتهامه ذات مرة بسرقة حصان نقطة تحول في حياته هرب على أثرها من القرية ولاذ بأحد الأديرة حيث اتخذ صفة الرهبانية التي لازمته بعد ذلك طيلة حياته.
شخصية محيرة
يظل راسبوتين حتى اليوم أحد أكثر الرجال حيرة و تميزا في التاريخ، كان فلاحا سيبيريا، وأصبح رغم كونه أميا، مقدسا في وسط الجهلة من الفلاحين، ثم انتقل إلى مدينة سانت بطرسبرغ حيث عمل بمكر للدخول إلى القصر الملكي، حيث أنقذ ألكسي رومانوف ابن القيصر نيقولا الثاني من النزف حتى الموت حيث كان مصاباً بالناعور، فاقتنع القيصر وزوجته ألكسندرا فيودوروفنا بأنه قديس، وعاش السنوات السبع التالية ناصحاً لهما في القصر أو قريب منها. وشكّل النفوذ المتزايد لغريغوري راسبوتين أحد الأسباب التي سببت قيام الثورة الروسية عام 1917.
لقب بالراهب أو بالمتجول أو الحاج، على الرغم من أنه لم يشغل أي منصب رسمي في الكنيسة الروسية الأرثوذكسية، بعد السفر إلى سانت بطرسبرغ، إما في عام 1903 أو في فصل الشتاء من عام 1904 حتى عام 1905 أسرت شخصية راسبوتين بعض قادة الكنيسة والنخبة الاجتماعية والسياسيَّة، وأصبح شخصية مجتمع، والتقى بالقيصر نيقولا الثاني في نوفمبر من عام 1905، كانت أخلاقه غير مألوفة مترنحا من السكر دوما، وهاجم الجميع في البلاط دون اعتبار من يكونون.
نجح في أن يكون مستشارا مقربا جدا من القيصر والملكة وعقب هزيمة الجيش الروسي أمام الجيش الألماني واجتياح وارسو قام القيصر بتنحية عمه نيقولا الأكبر من قيادة الجيش وتولى بنفسه قيادة المعارك، وتوجه إلى الخطوط الأمامية وترك السلطة بيد الإمبراطورة، وكان راسبوتين مستشارها وأقرب الأشخاص إليها، وكان تأثيره قوياً جداً على كل البلاط ولا يجرؤ أحد على اعتراضه.
نفوذه يتوسع
تولى الإشراف على كل ما يصل من القيصر على الجبهة، وأشيع أنه كان يتولى النصح له في رسائل ترسل من قبل الإمبراطورة، وأصبح نفوذه علي القرارات الداخلية والخارجية واضحا،ورغم كل الاعتراضات والنفور الشديد من أعضاء أسرة رومانوف الحاكمة على راسبوتين وأفعاله الشخصية تجاههم وعدم تعامله معهم بما يليق إلا أنهم كانوا يعلمون تأثيره الواسع على القيصر والإمبراطورة وحاجتهم الشديدة إليه لعلاج ولي العهد.
ذاعت شهرته ونجح في جذب المزيد من الأنصار من جميع الطوائف الاجتماعية، وقد تطوع هؤلاء البلهاء كما كان يطلق عليهم "لارتكاب الخطيئة من أجل التطهر من آثامهم" مع رجل بدوا عاجزين أمام جاذبيته، كذلك بزغ نجم راسبوتين في سان بطرسبرغ، وبالمثل زاد عدد أعدائه، إذ رآه كثيرون خارج حدود البلاط يحيا حياة السُكر والعربدة، وغالبا ما يكون بصحبة العاهرات، وحين علم مسؤولون سياسيون كبار بهذه الشائعات كلفوا شرطة سرية بتعقبه.
ان مت تموت
شهد عام 1916 إرسال راسبوتين خطابا للقيصر يتنبأ فيه بقتله، وعن قتلته المحتملين كتب يقول" إذا قتلني أقاربك فلن يبقى أي فرد من عائلتك حيا لأكثر من عامين، وتستطيع أن تقول أي من أولادك أو أقاربك، فسوف يقتلهم الشعب الروسي، سأُقتل، لم يعد لي وجود في هذه الحياة، صل أرجوك، صل، وكن قويا، وفكر في عائلتك المصونة".
تجسيدا للشيطان
محاولة اغتياله
اقتنع راهب يميني متعصب يدعى ليودور، وهيرموغين أسقف ساراتوف، بأن راسبوتين ما هو إلا تجسيد للشيطان، وهما من أنصاره السابقين، شن ليودور حملة لدى الكنيسة الروسية الأرثوذكسية كي يطرد راسبوتين ويحرم من الرهبنة، وقدم ليودور دعاوي كثيرة حول تصرفات جنسية فاحشة من جانب راسبوتين، وأشاع أن المدعي العام متعاطف مع راسبوتين، وطلب ليودور من المجمع الكنسي طرد راسبوتين، وإلاّ سيعتبر نفسه مطرودا، وفي عام 1911 م تم استدرجاه إلى طابق سفلي حيث اتهماه باستخدام قوى الشيطان للقيام بمعجزاته وضرباه بصليب، وأبلغ راسبوتين الإمبراطورة بالواقعة وادعى أنهما حاولا قتله ومن ثم تم نفي الرجلين، وفي السابع والعشرين من يونيو عام 1914 م عاد راسبوتين إلى قريته في سيبريا.
عاد ليودور إلى اسمه الأول سيرغي تروفانوف، ووضع رهن الاعتقال المنزلي في قريته جنوب روسيا، وجمع حوله بعض الأتباع المتعصبين، وكذلك بعض النساء، وفي بداية عام 1913 تآمرت المجموعة لاستدراج راسبوتين إلى منزل في سانت بطرسبرغ تحت إغراء الجنس، حيث يمكن اغتياله، لكن راسبوتين شعر بالمؤامرة، ولم يأتِ في الموعد المحدد إلى ذلك البيت، وفي العام التالي 1914م وبينما كان في طريقه لإرسال رد لبرقية تلقاها رأى متسولة تعترض طريقه وتطلب منه نقودا، مد راسبوتين يده إلى جيبه، فأخرجت سكينا، فهاجمته عاهرة سابقة مشوهة مجدوعة الأنف تدعى شيونيا جاسيايا بوحشية، دفعها ليودور لقتل راسبوتين، أصابت الطعنة المعدة، وتمكن راسبوتين من إعاقة المرأة، وسرعان ما تجمع الناس حول المتسولة وجذبوها إلى الوراء.
بقي راسبوتين يتعافى في المستشفى من الطعنات التي أصيب بها جراء مكيدة ليودور به، كان القيصر نيقولا يحشد قواته استعداداً للحرب العالمية الأولى التي جلبت كارثة على وطنه والتي عرضها راسبوتين، حيث فقد أكثر من أربع ملايين روسي أرواحهم، وبالعودة إلى سان بطرسبرغ ومع غياب القيصر استطاع راسبوتين اكتساب المزيد والمزيد من القوى السياسية وساهم في تعيين وطرد الوزراء، والسيطرة على قرارات حكومة روسيا داخلياً، لأن القيصر كان منشغلاً بأمور الحرب. وتم طرد الأشخاص المعارضين لراسبوتين؛ وبدأ تقريب الموالين له وتعيينهم في أخطر المناصب. سرت الشائعات أن راسبوتين يخطط مع زوجة القيصر لعقد اتفاق سلام مع ألمانيا بشكل سري ومنفصل. وبنفوذه الطاغي على قرارات القيصر السياسية زاد اللوم الموجه للراهب السيبيري على المشاكل التي عانت منها البلاد حتى أن مدينة سان بطرسبرغ أصبحت تعرف باسم " مدينة إبليس".
لم يقتله السم والرصاص
اجتمعت مجموعة من الوطنيين المحافظين يرأسها الأمير فيليكس يوسوبوف وابن عم القيصر: الدوق الأكبر ديمتري، لإزاحة راسبوتين من الطريق بعد أن شعرت أن مستقبل روسيا أصبح تحت إمرة راسبوتين، ذلك الراهب الغامض الذي يقود العائلة الملكية في روسيا إلى مستقبل غامض، وفي عام 1916 دعاه يوسوبوف إلى قصر مويكا بحجة أن إيرينا التي يشاع عنها أنها أجمل امرأة في سان بطرسبرغ تريد مقابلته، وقبل راسبوتين الدعوة، والذهاب إلى غرفة جانبية حيث سيكون بانتظاره مائدة عامرة بأنواع الحلويات والفواكه، وستكون قوالب الكعك عامرة بمادة سيانيد البوتاسيوم، وإذا فشلت المادة بقتله، فإن السم الموجود في الكؤوس سيتمّ المهمة.
حينذاك كان راسبوتين ينتظر ظهورها وقدم رجل له قطعتين من الكعك وخمر مدسوس بهما سما مميتا، وشرب راسبوتين كأسين من الخمر المسمومة، ولم يظهر عليه أي أثر للتسمّم، بل إنّه شعر بالمزيد من الظمأ والتشوّق لرؤية الأميرة،مضى الوقت ولم يحدث شيء، فأصيب المتآمر بالهلع لما بدا من حصانة راسبوتين ضد السم، واتفق الأمير مع المتآمرين على إطلاق النار على الراهب، وهكذا نزل وهو يخفي مسدساً، وعندما انضم إلى الراهب طلب مزيداً من الخمر، وبعد أن شربها، اقترح الخروج لزيارة الغجر لقضاء وقت طيّب، من الخلف، نزع الأمير مسدسه، وأطلق النيران على راسبوتين الذي التفت فاستقرت الرصاصة في صدره، اتسعت عينا الراهب بشكل مرعب،وفتح فمه كما لو كان سيتكلم، سمع المتآمرين صوت الرصاص، واندفعوا إلى الغرفة، وكانت الساعة 3 صباحاً، وهناك شاهدوا راسبوتين متمدداً دون حراك... والدم ينزف فوق السجادة، بدأ الجميع يتخذون الترتيبات لنقل الجثة وجمع أغراض راسبوتين من معطف وقبعة، وذلك لإحراقها.
وبالمصادفة فقط، انحنى أحد المتآمرين قريباً من الجثة، وإذ بالرعب يأخذ منه كل مأخذ، فقد فتح راسبوتين إحدى عينيه، ثم فتح العين الأخرى، ثم نهض على قدميه وبصعوبة بالغة ترنح راسبوتين خارجا إلى ساحة القصر، فأطلق الرجال النيران ثانية عليه هو المترنح، فسقط راسبوتين وضرباه بهراوة وقيداه، وركل المتآمر رأس الراهب الصريع، قرر المتآمرون أن يلقوا بجسده في نهر نيفا المتجلدة.
نبوءته تتحقق
وعندما عثرت الشرطة على جثة راسبوتين بعد يومين دل تشريحها الذي كشف عن وجود مياه في الرئتين، وأن راسبوتين كان ما زال حيا عندما ألقى به في النهر، ولكن برودة الماء المتجلد قتلته، وبالفعل بعد موته تحققت نبوءته، حيث اعدم القيصر والعائلة رميا بالرصاص .