محمد حسين يونس
خلال ثمانينيات القرن الماضي أتيح لي زيارة قصيرة لألمانيا .. كانوا هناك يتحدثون عن مصانع ضخمة تدار بدون مراقبة بشرية و تعمل 24 ساعة يوميا دون توقف و لا تحتاج خلال ساعات الليل حتي للاضاءة رغم انها تعمل بكامل طاقتها بدون اشراف .
وأنهم قد توقفوا عن سبك و صناعة الحديد في حوض نهر الراين الذى كان يعج من قبل بشتي أنواع مصانع الصلب و أن كل الصناعات الملوثة للبيئة و التي تحتاج لعمالة كثيفه قد تم ازاحتها لدول العالم الثالث( حديد ، المونيوم ، اسمنت ، كيماويات )
لقد كان الكومبيوتر يصنع ما يشبه المعجزات .. فعندما زرت مطبعة ضخمة حديثة تطبع الجرائد و المجلات و الكتب كان موظفيها لا يزيدون عن عدد أصابع الكفين بعد ان استبدل الجهد البشرى في الجمع و الطبع ببرامج الكومبيوتر ..
و كانوا يشكون ان التقدم التكنولوجي صاحبه تخفيضا في عدد العمالة و ساعات العمل حتي أصبحت خمسة ايام في الاسبوع و في طريقهم لجعلها أربعة
كذلك ارتفاع ميزانيات الضمان الاجتماعي خصوصا اعانات البطالة التي كانت تساوى دخل العامل المتعطل خلال فترة اعادة تأهيله لنوعية اخرى من الاعمال التي يحتاجها السوق دون اهتزاز لمستواه المعيشي الذى كان بالنسبة لي مذهلا .. ان كل عامل فني له منزل مناسب و سيارة و كل الادوات التى تجعله يعيش معاصرا
علي الجانب الاخر رغم اننا نعيش زمن ثورة الاتصالات و تكنولوجيا المعلومات كمستهلكين بقوة ..
الا اننا عندما نتكلم عن الانتاج نكتشف اننا نعيش علي اعتاب بداية التطور التكنولوجي من حيث المعدات و الآلات .. و نهاية الثورة الصناعية الاولي من حيث التدريب و التعليم و الانتاج و الادارة ..
قد تجد المهندس او العامل يمتلك احدث التليفونات والكومبيوترات و التلفزيونات و الاطباق اللاقطة للارسال الفضائي .. و لكن عندما يتكلم عن المعدة التي يعمل عليها تتوقف كل ملامح العصر و يعود لافكار ميتافيزيقية تجعل هذه الآلة تعمل باسلوب غير مفهوم فيدير تلاوة القران طول اليوم و يتفرغ للدعاء المستجاب الذى يفك شياطين اعطال المعدات (قبل ان يقلع بالطائرة او يتحرك بالاتوبيس و يطيل في الصلاة قبل ان يفتح المعدة للصيانة او الاصلاح )..
العمالة المصرية و المهندسون يعانون من انفصام حاد في السلوك المهني يؤدى الي سيادة العشوائية و التجربة و الخطأ عسي ان يفتح عليه ربنا بالحل للمشكلة التي يواجهها ..
مع بداية القرن الحادى والعشرين بدأت تكنولوجيا الأتوميشن Automation تدخل مصر ، لقد أصبح لزاما لإدارة محطات توليد الكهرباء الضخمة وتنقية مياه الشرب ومعالجة المجارى وتشغيل مترو الأنفاق ومصانع الأسمنت والحديد والصلب والسيراميك الاستعانة ببرامج (الاسكادا) التى تدير وتراقب وتستخرج التقارير عن سير العمل فى هذه المحطات ،
كذلك استخدام برامج صيانة وقائية متقدمة مثل frontline لتحديد أنواع الصيانة اليومية وقطع الغيار المستخدمة والمخزون الآمن منها ..
وهكذا بدأت متطلبات الادارة تتغير بالنسبة لعدد العمالة ومستواها العلمى والتدريبى .. فالعامل الريفى الذى يعمل فى المحلة وكفر الدوار ليغزل وينسج على أنوال ومغازل شبه ميكانيكية لم يعد مطلوبا ،
كذلك زميله الذى يعمل فى مصانع سكر دشنا وقوص لم يعد يناسب التكنولوجيا الجديدة التى أصبحت تعمل ببرامج مركبة للغاية وتدار بواسطة أنظمة كمبيوتر وتحتاج الى العامل المتعلم والمدرب والذى فى بعض الأحيان يتقن اللغة الأجنبية .
المستخدمون لنظام( الاسكادا) كانوا سعداء به لمدة سنتين أو ثلاث ثم بدأت الأعطال
ثم وجد ان قطع الغيار لا تنتجها أوروبا بعد أن تعدلت الأنظمة واستبدلت القديمة بأخرى أكثر تطورا وهنا ظهرت الحاجة الى عمالة قادرة على فهم وتطوير وتعديل واستبدال هذه الأنظمة والا نصبح عبيدا لمن يصنعونها كما هو الحال فى بلاد الخليج حيث يقوم بأعمال الصيانة والتشغيل شركات أجنبية لا تستخدم العمالة المحلية الا فى أضيق الحدود.
تغيير أسلوب التعليم والتدريب ليناسب العصر الجديد أصبح مهمة أساسية لكل مجتمع يحاول ان يلحق بالركب.
هكذا طالت التكنولوجيا الحديثة وثورة الاتصالات والمعلومات بعض المصانع والمحطات التى أسسها الأجانب وقاموا بتشغيلها لفترة وإن ظلت باقى الأعمال الصناعية التى توظف الكم الأساسى من العمالة على حالها تعانى من الادارة المتخلفة والتشغيل الذى يعود الى القرن التاسع عشر وربما العقود الأولى من العشرين مع نقص قطع الغيار والخبرة وتدنى مستوى الانتاج وحجمه ، تسيطر على عمالتها كل من أطلق لحيته ولبس جلبابا قصيرا وأدار بين أصابعه حبات المسبحة.
و النتيجة أن الحكومة التي تمتلك معظم المصانع القديمة .. التي كانت تغطي إحتياجاتنا .. أغلقتها أو دمرتها أو باعتها للمستثمرين الذين هدموا البعض و حولوه لغابات خرسانية أكثر فائدة .
اليوم نعتمد في سد إحتياجاتنا علي الإستيراد .. و ضاع حلم .. تصنيع من الإبرة للصاروخ ..
و فتحنا المناطق الحرة .. لتخدم صناعات الأجانب أو تقوم بأعمال مكمله لإحتياجاتهم .. دون أن تطرح نتاجها بالداخل ..
و عندما .. شجعنا قيام بعض الأعمال الصناعية التي تخدم السوق المحلي .. كانت المواد الكيماوية ..والأسمنت و مصانع الحديد التي هاجرت من حوض نهر الراين للبلاد التي لا تهتم .. بالبيئة و تلوثها .. و مشاكلها .
لا أعرف ما هو الحل ..هل نبدأ بالتعليم و التدريب .. ثم نوظف أموال المنوريل و العاصمة الجديدة .. و ناطحات سحاب العلمين لإنشاء صناعات حديثة متطورة تستوعب العمالة التي تم إعادة تأهيلها لتتوافق مع الشكل الجديد للإنتاج ..
أم نضع شروطا علي الإستثمار المحلي و الأجنبي أن يتبع خطة مركزية لتطوير الصناعة و الزراعة .. و التغليف و النقل و التوزيع و الدعاية و الإعلان
. . أم نترك الأمور علي ما هي علية و بلاش فلسفة ..و وجع دماغ اللي متقدر لك حتشوفه .. و إحنا قدرنا إننا نطلق اللحية و نلبس الجلابية .. و نؤدى الفروض في موعدها بجامع أو مصلية الوحدة الإنتاجية .. إيه رأيك إنت !!