كل يوم أنتيا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا
قضيت الليلة الأولى في زنزانة بمقر أمن الدولة بالمرج في أرق و لم أستطع النوم ، كان ذلك في منتصف شهر يناير من عام 2001 ، كنت أفكر فيما آلت إليه الأمور لماذا وصلت أنا وأبي إلى هذه الحدود من العلاقة المتأزمة ، استرجعت ما حدث في الثلاثة أسابيع السابقة منذ وصول أبي من الغربة في بلاد الخليج بحثا عن الرزق ، فبعد أن استقر به المقام في مصر حاول أن يصلح ما أفسده سفره داخل الأسرة ، فعلى مدار ثلاثة عشر عاما هي فترة سفره بعيدا عنا انتقلت القيادة داخل الأسرة إلى أخي الأكبر وإلي معه بعد ذلك على عكس الوضع الطبيعي فقد كان من المفترض أن تنتقل القيادة إلى أمي ، ولكنها بطبيعتها إنسانة ضعيفة لا تستطع تحمل أعباء الأسرة بمفردها ولكن الاحتياج الشديد إلى تحسين الوضع الاقتصادي اضطرها إلى الموافقة على سفر والدي كي يستطيعوا إكمال رسالتهم معنا بإكمال تعليمنا .
استقر أبي في مصر وحاول ترتيب أمور البيت من جديد بوضع الأمور في نصابها ، كان قد أحضر معه متعلقاته الشخصية التي كان يستخدمها في سفره ومنها التليفزيون ، وهو ما كنت قد حرمت تشغيله في البيت بالقوة ، بالنسبة لأمي فلم يكن هناك مشكلة كبيرة فهي بطبيعتها لا تشاهد التليفزيون ، ولكن المشكلة كانت مع أخي الأصغر وأختي الصغرى والوحيدة فكنت أمنعهما من التليفزيون بتاتا بحجة الحب لهم والخوف عليهم من التعرض لعذاب الله في الآخرة ، وكم كانت والدتي تترجاني أن أسمح لهما بمشاهدة الأشياء العادية أو المباريات ولكني كنت أرفض ولا أستجب لتوسلاتها بحجة أن البرامج العادية أو المباريات ستكون البداية ولكن بعد ذلك سوف ينجرون إلى مشاهدة المحرمات ، وحتى البرامج العادية فيوجد بها نساء غير محجبات فلا يجوز مشاهدة هذه البرامج ، ولو صادف عدم وجود نساء غير محجبات في هذه البرامج فلن يسلم الأمر من وجود الموسيقى في هذه البرامج إن لم يكن في داخلها فسيكون في تتر المقدمة والنهاية ، وطبعا الموسيقى حرام فيبقى البعد عن التليفزيون كله هو الحل المثالي .
قام أبي بتشغيل التليفزيون في البيت بعد انقطاع فترة طويلة أحسست ساعتها بالغضب الشديد ولكني لم أفعل شيء ، ولكن الذي جعل الأمور تتأزم هو محاولته جعل أختي تشاهد معه التليفزيون ، والطامة الكبرى بالنسبة لي هي أنه أحضر معه ريسيفر وقال أنه سوف يقوم بتركيب الستالايت في البيت ، كان أبي يريد بذلك التخفيف من معاناة أختي وأخي الأصغر معي ومع أخي الأكبر طوال هذه السنين ولكني فسرت الأمر على نحو خاطىء بسبب أفكاري ونظرتي المتشددة للحياة عامة ، فسرته أنه بذلك سيقوم بإفساد البيت وسيهد كل ما بنيته أنا وأخي في هذه السنين التي كنا مسيطرين فيها على البيت ونقوم فيها بفرض الوصاية الدينية عليهم .
قررت بيني وبين نفسي أنه لابد من أخذ خطوة قوية وصادمة داخل البيت حتى أقوم بالحفاظ على البيت من الفساد الذي سوف ينشره والدي بتشغيل القنوات الفضائية ، فاستغللت أحد المشادات بيني وبينه فذهبت إلى غرفته والتي بها التليفزيون والريسيفر وأغلقت على نفسي الغرفة وقمت برفع السجادة من على الأرض وفعلت مثلما فعل محمود حميدة في فيلم ( بحب السيما ) ، نعم كسرت التليفزيون والريسيفر على البلاط ، وكمان كان فيه جهازين تليفزيون في الدولاب وهما اللذان كانا موجودين من الأول في البيت أخرجتهما وكسرتهما ثم فتحت الباب ودخل أبي وشاهد المنظر المفجع على أرضية الغرفة ، وشاهدت أنا ما تمنيت أني مت قبله ولم أكن لأراه ، أو يا ليتني لم أولد أساسا حتى لا أراه ، شاهدت الرعب في عيني أبي .
النشأة
مكثت في زنزانتي أتابع شريط حياتي وأتأمله جيدا وأقلب ما فيه من أحداث . رجعت إلى بدايات النشأة فأنا
أنحدر من أسرة صعيدية من جنوب مصر وتحديدا من محافظة قنا قرية كرم عمران ، وتنتسب أسرتنا إلى الأشراف وهم الذين ينحدرون من النسب النبوي .
نزح الجد إلى القاهرة وهو شاب في بداية أربعينيات القرن العشرين وتزوج من جدتي وهي من مركز قوص في محافظة قنا ، وطبعا الفكر الذي كان يحكمه إنه لازم يتزوج من فتاة صعيدية لأن بنات القاهرة غير معروفين الأصل وصعب السيطرة عليهن ، جاء جدي بجدتي وسكن القاهرة مستوطنا بها وأنجب ستة ذكور وابنة واحدة ، ولأنه كان فقيرا ويعمل في وظيفة عامل بمطار القاهرة لم يستطع أن يكمل تعليم أولاده إلى مستويات عليا ، وكل من أكمل منهم تعليمه الجامعي فكان بمجهوده وكفاحه بعد زواجه واستقرار حياته نسبيا .
أبي كان الابن الأكبر لجدي كان نصيبه هو وعمي الذي يصغره من التعليم الحصول على الشهادة الإعدادية ثم التطوع في الجيش هربا من الفقر ومن قسوة الأب الصعيدي الذي كان يرى في القسوة خير سبيل للتنشئة الصحيحة خاصة للذكور كي ينشئوا رجالا حسب فهمه ، الغريب والجميل عند جدي – وهو ما ورثة أولاده منه – هو معاملة الابنة بكامل المعاملة الحسنة بل وتمييزها في المعاملة على الذكور .
تطوع أبي في الجيش بعد استخراج البطاقة الشخصية وفي سن العشرين قابل والدتي في نفس الحي الذي كانوا يسكنون فيه وهو حي الزيتون ، وتذكر أنها كانت زميله له في المدرسة الابتدائية - فهو يكبرها بعامين – وأنها فوق ذلك ابنة صديق والده ، فقد كان جدي لأبي وجدي لأمي أصدقاء في فترة الشباب وكانا يسكنان سويا في شقة مشتركة في فترة العزوبية .
بارك الجد زواج ابنه من ابنة صديقه وتم الزواج في القاهرة وبعدها بأيام سافر أبي وأمي إلى واحة سيوة حيث مقر وحدة أبي فقد كان أبي في سلاح الحدود ، عاشا هناك قرابة 8 أشهر مع أهل سيوة الطيبين . واحة سيوة يسكن بها عرب من قبائل مطروح وقبائل من أصول أمازيغية ذلك العرق المنسي والمتجاهل على أرض الوطن حتى أني لم أعرف أنه يوجد في واحة سيوة أمازيغ إلا قريبا لما قرأت عنهم في أحد الصحف فسألت أبي عنهم فقال نعم هم غير عرب ويسكنون في واحة سيوة وكنت أظن قبل أن يخبرني أن من يسكن واحة سيوة قبائل عربية فقط ، حتى أن كثيرا ممن يعملون في العمل العام لا يعلمون بوجودهم على أرض مصر.
حاول أبي أن يرتقي تعليميا وفعلا استكمل دراسته الثانوية بعد رجوعه من فترة الإقامة في واحة سيوة واستقراره في القاهرة ، وحصل على الشهادة الثانوية العامة بمجموع أهله إلى الالتحاق بكلية الحقوق ، ولكن بسبب إنجابه لولدين مع ضيق ذات اليد لأن الجيش ساعتها كانت ظروفه المادية سيئة لم يستطع إكمال تعليمه ، وبعد أنا أنجب أولاده كلهم – ثلاثة ذكور وبنت – وبسبب الظروف المادية السيئة في الجيش وقتها اضطر للاستقالة منه في منتصف الثمانينيات من القرن الماضي ، ظل بعدها حوال 3 سنوات في مصر مابين العمل كسائق في شركة أو على سيارة أجرة حتى جاءته فرصة السفر إلى السعودية في بداية عام 1988 .
كنت ساعتها في الرابعة عشر من عمري في الصف الثاني الإعدادي ، وبعدها بسنتين كانت ظروفنا الاقتصادية تحسنت كثيرا واستطعنا الانتقال في شقة أكبر مساحة تتبع نفس الحي الذي أسكن فيه وهو حي المطرية وكان ذلك في شهر سبتمبر من عام 1990 مع إكمالي للسنة السادسة عشر من عمري وبداية العام الدراسي الثاني الثانوي .
وبهذا الانتقال يبدأ فصل جديد من حياتي ببداية سكن جديد وبداية نقلة فكرية بعيدة .
نقلة بعيدة
أستعير هذا العنوان من عنوان أحد فصول كتاب ( معالم في الطريق ) للأستاذ سيد قطب الأب الروحي لجماعات العنف المسلح في العصر الحديث ، فهو لجماعات الإسلام السياسي بمثابة النبي ، فهم يختلفون فيما بينهم على أيهم يمثل فكره في الواقع ، فكل جماعة تدعي أنها هي الأحق به وأنها هي التي أنزلت أفكاره على أرض الواقع بصورة صحيحة وكاملة ، وأن الجماعات الأخرى تنتسب إليه زورا لأنها حادت عن تطبيق بعض جوانب فكره ، تماما كما فعلت الفرق والمذاهب الإسلامية في صدر الإسلام فكل الفرق تدعي وصلا بالرسول ، وأنها هي التي تحقق الحديث النبوي (( ... ما أنا عليه وأصحابي )) وأنها هي الفرقة الناجية من الثلاث وسبعين فرقة التي افترق عليها الإسلام .
في بداية عام 1990 فتحت التليفزيون فوجدت بالمصادفة الحلقة الأولي من مسلسل أمريكي مشهور آنذاك اسمه ( فالكون كريست ) ، شاهدت الحلقة الأولى من المسلسل واعجبت بها جدا وقررت أن أتابعه ، امتد المسلسل لتسعة مواسم ، كل موسم 30 حلقة ، وفي نهاية الموسم الثامن وقبل نهايته بإسبوع حدث ما لم أكن أتوقعه فقد تعرفت على جماعة الإخوان المسلمين .
في أحد أيام الفصل الدراسي الأول من الصف الثاني الثانوي كنت جالس في الفصل أقرأ أحد أعداد مجلة ( طبيبك الخاص ) والتي كانت تناقش القضايا والمشكلات الجنسية ،وهي القضايا التي كانت تشغلنا في فترة المراهقة ، فشاهدني أحد زملائي في الفصل ، وقال لي أن هناك كتب إسلامية تتكلم في هذه المواضيع وبتبقى أفضل قال لي ذلك ورن جرس المدرسة إيذانا بانتهاء اليوم الدراسي نزلت معه من الفصل وأخذنا نتحدث وعرفت منه أنه جاري في نفس الحي ، ودعاني إلى الصلاة معه في مسجد النور المحمدي بميدان المسلة بالقرب من منزلي ، ودعته على باب المدرسة ( مدرسة ابن خلدون الثانوية ) على اتفاق بالمقابلة في المسجد ، وبالفعل ذهبت إليه في صلاة المغرب وعرفني على مجموعة من الأصدقاء يصلون معا في المسجد كل صلاة ، كانوا مجموعة في نفس عمري تقريبا إلا واحدا كان في بداية فترة دراسته الجامعية وكان هو مسئول المجموعة .
رجعت من صلاة المغرب مع أصدقائي وكنت سعيدا بالتعرف عليهم فهم شخصيات هادئة ومسئول المجموعة يتميز بالبشاشة واللطف في المعاملة ، ولكن قابلتني مشكلة تحيرت ماذا أفعل فيها ، هذه المشكلة هي ماذا أفعل في المسلسل الذي أعشقه فالآن كيف أجمع بين التزامي بالصلاة في المسجد مع أصدقائي الجدد وبين مشاهدة المسلسل بما فيه من مشاهد عارية أحيانا خاصة مشاهد الممثلة التي كانت تقوم بدور ( ميليسا ) ، فكرت كثيرا وفي الآخر قررت أن استكمل الحلقات المتبقية من المسلسل وعندما تأتي مشاهد عارية سوف أصرف بصري عنها ،وكان ما قررت .
صراحة لم يطلب مني أحد ساعتها التوقف عن مشاهدة التليفزيون ، ولكن بحكم أني من أسرة محافظة دينيا كانت أمي تنتقد مشاهدة هذه المشاهد ، فكان مركوزا بداخلي بحكم النشأة حرمة هذه المشاهد ، فعندما التزمت بالصلاة كان من الطبيعي داخلي أن أتوقف عن مشاهدة هذه المشاهد حتى لا أكون متناقضا .
في هذا التوقيت لم أكن أعرف أن هذه المجموعة تنتمي لجماعة الإخوان المسلمين ، فهم لا يفصحون للأفراد الجدد بهويتهم حتى لا يفزعون منهم ، ولكن يؤجلون هذا الإعلان إلى أن يتمكنون من ربط الفرد الجديد بهم بحيث يكون قد تم احتوائه نفسيا ومعنويا وفكريا ، بالإضافة إلى ربطه بهم بتحقيق احتياجاته ، فقد كانوا يوفرون لنا من يعطينا دروس خصوصية مجانا في المواد الدراسية التي نعاني من صعوبتها ، وكذلك يستغلون عدم اهتمام الأسر بمشاكل أبناءها وإحساس كثير من المراهقين بالغربة داخل أسرهم ، فأولياء الأمور يهتمون فقط بتوفير الاحتياجات المادية لأبنائهم من مأكل ومشرب وملبس ودراسة ، أما الاحتياجات المعنوية ، فلا يعرفون عنها شيئا ، ولو عرفوا لا يوجد عندهم من الوقت الشيء الكافي للجلوس مع أبناءهم والتقرب إليهم ، والتحدث معهم ومصادقتهم بسبب الظروف الاقتصادية الطاحنة التي يمر بها المجتمع ، والتي تضطرهم للالتحاق بوظيفتين للأب وأحيانا بجانب عمل الأم وذلك لتوفير الاحتياجات الأساسية لأبنائهم ، بسبب هذه الظروف يسهل على جماعات الإسلام السياسي التأثير على المراهقين والشباب ، وضمهم إليهم .
بعد انتهاء الموسم الثامن من مسلسل ( فالكون كريست ) توقف عرض المسلسل حوالي شهر بسبب مرض بطلة المسلسل والتي كانت تقوم بدور العجوز ( آنجيلا ) مما اضطر القائمون على المسلسل بكتابة الموسم التاسع والأخير بحيث يناسب إقامة البطلة في المستشفى ، فكانت تقوم بتأدية دورها وهي على سرير المرض ، وبعد شهر بدأ عرض الموسم الأخير ، وكانت أمي وأخوتي في انتظار رد فعلي ماذا سأفعل هل سأتابع مسلسلي المفضل أم سأتركه ؟ وقتها كان زاد ارتباطي بمجموعة الأصدقاء الجدد ، وكان عندي من قوة العزيمة ما يمكنني من مقاومة إغراء المشاهدة .
في خلال هذا الشهر كان الأخ المسئول عنا في المسجد عامل لينا جدول التزامات يومية يحتوي على الصلوات الخمس في جماعة ، والأذكار اليومية ، و3 ساعات مذاكرة يوميا ، وهذا كان على العكس تماما من الجماعة الإسلامية التي انضممت لها لاحقا ، فقد كانت لا تهتم بالدراسة إطلاقا ولا تشجع عليها ، لأنها كانت تسعى للصدام العسكري مع النظام الحاكم ، وهذا الصدام ستكون نهايته المؤكدة أما القتل أو الاعتقال ، لذلك الانشغال بالدراسة كان يعوق العمل داخل الجماعة الإسلامية .
لهذا دعوة الإخوان المسلمين لم تكن تقابل من الآباء بكثير من المقاومة لأنهم يجدون أبنائهم يتقدمون دراسيا فلا يشعرون بخطورة الجماعة على أبنائهم ، بعكس الانضمام إلى الجماعة الإسلامية كان يقابل من أولياء الأمور بالضغط على أبنائهم لما يرونه من تأخر ملحوظ في المستوى الدراسي لأبنائهم ، هذا غير المشاكل التي كان يتعرض لها أفراد الجماعة الإسلامية من أولياء أمورهم عندما يعرفون أن أبناءهم منضمون لتنظيم سري مناهض لنظام الحكم ، وكانت هذه المشاكل هي الأخطر .
أحد أهم الوسائل التي تستخدمها جماعات الإسلام السياسي لربط الأعضاء الجدد بها هي الرحلات المدعمة ، ففي خلال هذا الشهر قمنا بعمل رحلة إلى القناطر الخيرية ، بها فقرات كثيرة ممتعة للشباب ، ثقافية ، ورياضية ، وفنية ، فقد قام مجموعة منا بعمل عرض مسرحي يسخرون فيه من أداء الناس العاديين للصلاة وأنهم لا يؤدوها جيدا ، وذلك لتعميق الفجوة بيننا وبين باقي الناس وأننا الأفضل ، وأنهم يحتاجون إلينا لهدايتهم لأنهم لا يعرفون الدين جيدا ونحن نعرفه أفضل منهم ، طبعا في ذلك الوقت لم أكن أدرك ذلك ، ولكني أدركته متأخرا ، بل متأخرا جدا .
قبل تعرفي على جماعة الإخوان المسلمين بفترة وجيزة كان أخي الأكبر تعرف على الجماعة الإسلامية عن طريق المصادفة .
ففي بداية شهر سبتمبر من عام 1990 قتل أحد قيادات الجماعة الإسلامية والمتحدث الرسمي لها الطبيب علاء محي الدين ، وهو من محافظة سوهاج ، وكان أمن الدولة طلب منه عدم نزوله إلى القاهرة ، ولكنه رفض أن ينفذ كلامهم فهددوه بالقتل فلم يستجب لتهديداتهم ، وبالفعل نزل الدكتور علاء إلى القاهرة فتم اغتياله ، وأصبحت الجماعة في حالة غليان وغضب لمقتل أحد قياداتها ، واجتمع في أحد المساجد الصغيرة بجوار منزلنا مجموعة من قيادات الجماعة الإسلامية بأفراد الجماعة من المطرية والأميرية وعين شمس الغربية ، وكان وقت الاجتماع صلاة العصر .
نزل أخي لأداء صلاة العصر في هذا المسجد فحضر معهم اللقاء ولأن القيادات الحاضرة من الصعيد ولا تعرف كل أفراد الأحياء المجتمعة فلم يلاحظوا وجود أحد غريب في وسطهم وهو أخي ، ولكن مسئول المطرية لاحظ وجوده وحاول إخراجه بطريقة لطيفة وطلب منه إحضار مياه مثلجة للمجتمعين وجاء إلى شقتنا لإحضار المياه وحاول إثناء أخي عن الرجوع معه إلى المسجد وأنه سوف يحضر له الزجاجات الفارغة ، ولكن أخي أصر على الانضمام لهم في اللقاء مرة ثانية .
انتهى اللقاء وتعرف مسئول المطرية على أخي وعرفه على باقي المجموعة وتعاهدوا على زيارته عندنا ومداومة الاتصال به ، وفي فترة وجيزة كانوا صارحوه بحقيقة التنظيم وأنهم جماعة تسعى لتطبيق الشريعة الإسلامية عن طريق الجهاد ضد نظام الحكم بالعمل المسلح ، وفي فترة وجيزة أيضا كان قد تعرف على أنه يوجد في ساحة العمل السياسي الإسلامي جماعات شتى وأدرك ساعتها أنني مرتبط بجماعة الإخوان المسلمين دون أن أدري ، فعمل جاهدا على ضمي للجماعة الإسلامية ، وذلك بإحاطتي بأفراد الجماعة الإسلامية ، وكذلك بإحضار الكتب التي تناقش القضايا الخلافية بين الجماعة الإسلامية وجماعة الإخوان المسلمين .
كان من ضمن الخلافات بين الجماعتين مسألة ( الهدي الظاهر ) وهي المحافظة على الزي الإسلامي من لحية وجلباب قصير ، فقد كانت الجماعة الإسلامية تحافظ على الشكل الظاهري للالتزام وتعتبرها قضية مفصلية في حين أن جماعة الإخوان المسلمين لا تحافظ على هذا الشكل رغبة منها في التخفي داخل المجتمع .
أحضر لي أخي كتاب عن وجوب إعفاء اللحية وقرأته في مدة وجيزة ، واقتنعت بفرضيتها ، وبعدها واجهت أصدقائي من جماعة الإخوان بوجوب إطلاق اللحية ولماذا لا يحافظون على هذه الشعيرة فلم أجد إجابة مقنعة .
كان أخي كلما يدرك قضية معينة من القضايا الفقهية والشرعية ينقلها إلي ، فبعد قضية وجوب إعفاء اللحية تعرف على قضية وجوب تغيير المنكر باليد ، وجاء لي بأحد أبحاث الجماعة في هذا الشأن وقرأته واقتنعت بالقضية ، وكما حدث في قضية اللحية واجهت أصدقائي بهذه القضية ووجدت منهم صدا عجيبا ، وبداية الريبة مني لأنهم أدركوا أني بذلك واقع تحت تأثير فكر مخالف لهم .
ازدادت الفجوة بيني وبين أصدقائي من جماعة الإخوان المسلمين بسبب المناقشات بيني وبينهم وعدم وجود ردود مقنعة في مقابل ما أواجههم به من أدلة وأقوال علماء على القضايا محل الخلاف ، وكانت القضية الفاصلة بيني وبينهم هي قضية ( الحاكمية ) ووجوب مواجهة الأنظمة الحاكمة بالقوة لتطبيق الشريعة الإسلامية لأن هذه الأنظمة الحاكمة كافرة ولن تستجيب للنصح أو للدعوة السلمية ، ولأن هذا دأب كل الأنظمة على مدار التاريخ في مواجهتها لأي دعوة إسلامية تريد تطبيق الشريعة الإسلامية .
فعندما تكلمت مع أصدقائي من جماعة الإخوان المسلمين في هذه القضية كانت القاصمة والفاصلة في علاقتنا ، وبعدها أصبحوا يحذرون أفرادهم من الكلام معي وطلبوا مني عدم التحدث مع أفرادهم ، وكان الانفصال والذي يعني في نفس الوقت الانضمام الكامل للجماعة الإسلامية ، وبداية صفحة جديدة في حياتي مليئة بالأحداث الجسام .
.
التكوين الفكري ( غسيل المخ )
كما ذكرت سابقا عمل أخي على دمجي بالجماعة الإسلامية عن طريق زيادة ارتباطي بأفراد الجماعة وتقربهم لي وتوثيق العلاقة فيما بيني وبينهم ، وذلك كان يتم في الوقت الذي بدأت تضعف علاقتي بأعضاء الإخوان المسلمين ، بالإضافة إلى إمدادي بالكتب التي تشكل الفكر السلفي عامة وفكر الجماعة الإسلامية خاصة الممثل في أدبياتها الفكرية وأبحاثها الشرعية .
لا أعرف ما الذي كان يدور بداخلي ، كل ما أتذكره هو أنني كنت أحس بطاقة جبارة بداخلي وكأنها طوفان حطم كل الحواجز وانساب على الأرض يغير من معالمها ، هذه الطاقة كانت تنقلني إلى عنان السماء أرى من خلالها العالم صغيرا لا يساوي شيئا ، وأنني قادر على تغييره ، وتشكيله حسب رؤيتي للحياة . طاقة كانت تجعلني استعذب المجهود الذي أبذله في الدعوة لضم أعداد جدد للجماعة ، وفي دراسة الكتب الشرعية والفكرية التي يأتيني بها أصدقائي الجدد في الجماعة الإسلامية .
تعرفت على تاريخ نشأة الجماعة في منتصف السبعينيات على يد مجموعة من الشباب في جامعة أسيوط وكانت ساعتها مجرد مجموعات للدعوة فقط لم تتميز كفكر مستقل عن باقي الجماعات ، حتى العام 1978 عندما قام الإخوان بدعوتهم للانضمام إليهم ، فقبل البعض وكان منهم الأستاذ أبو العلا ماضي ، ورفض البعض الآخر مكونين جماعة مستقلة بهم تحت مسمى الجماعة الإسلامية كان لها مجلس شورى يضم القيادات المؤسسة للجماعة مثل علي الشريف ، وناجح إبراهيم ، وصلاح هاشم ، وكرم زهدي ، وعصام دربالة ، وعاصم عبد الماجد وغيرهم .
وعرفت أن الجماعة قامت باغتيال الرئيس السادات في عام 1981 ، وكان يشترك معهم جماعة الجهاد ، وهذه أحد الأكاذيب التي اكتشفتها في فترة لاحقة وهي عادة تيار الإسلام السياسي في سرقة إنجازات الغير ونسبها إلى نفسه .
فقد كانت التيارات الجهادية تعتبر اغتيال السادات أحد الإنجازات ، فلذلك قامت الجماعة الإسلامية بسرقته من جماعة الجهاد الإسلامي بقيادة محمد عبد السلام فرج وقتها صاحب الكتاب الشهير ( الفريضة الغائبة ) .
تم القبض على قيادات جماعة الجهاد الإسلامي ، وقيادات الجماعة الإسلامية قبل وبعد حادث اغتيال الرئيس الراحل السادات ، وتجمعوا داخل السجن وحاولوا تشكيل جماعة واحدة ولكنهم فشلوا بسبب محاولة قيادات الجماعة الإسلامية السيطرة على قيادات التنظيم ويكون قائده الدكتور عمر عبد الرحمن وهو ما رفضه قيادات جماعة الجهاد وقالوا أنه لا يجوز ولاية الضرير لأن الدكتور عمر عبد الرحمن كان ضريرا ، وأصدرت جماعة الجهاد بحثا على عدم جواز ولاية الضرير .
قامت الجماعة الإسلامية في فترة السجن على ذمة قضية اغتيال السادات بكتابة الكثير من أدبياتها الفكرية مثل ( ميثاق العمل الإسلامي ) وهو يعد بمثابة مانيفستو الجماعة ، حتى مرافعة الدكتور عمر عبد الرحمن في القضية تم إصدارها في كتاب صدر بعد خروجهم من السجن في كتاب يحمل اسم ( كلمة حق ) .
خرج من السجن من حصل على البراءة مع من حصل على حكم ثلاث سنوات لأن فترة المحاكمة امتدت لثلاث سنوات ، وبدءوا في نشر الدعوة للجماعة الإسلامية ، ثم لحق بهم من أفرج عنهم بعد حكم بالسجن لمدة خمس سنوات وبعدهم أصحاب أحكام سبع سنوات ، وانتشرت الدعوة في أرجاء الصعيد ، والقاهرة خاصة أحياء عين شمس وإمبابة ، وفي وجه بحري خاصة محافظة الأسكندرية ، ومحافظة الدقهلية .
كان انضمامي للجماعة كما ذكرت في بداية عام 1991 بعد اغتيال المرحوم رفعت المحجوب ، وكان ذلك ردا على مقتل المتحدث الإعلامي للجماعة الدكتور علاء محيي الدين ، وكان المقصود بالاغتيال وقتها اللواء عبد الحليم موسى وزير الداخلية ، ولكن لم يمر موكبه من طريقه المعتاد ، ومر بدلا منه موكب رفعت المحجوب رئيس مجلس الشعب آنذاك .
أصدرت الجماعة وقتها بيانا تعلن فيه مسئوليتها عن الحادث بعنوان ( اخترنا واختار الله ) أي أن الجماعة اختارت وزير الداخلية ولكن الله قدر باختيار رفعت المحجوب ، وبررت الجماعة فيه قتل رفعت المحجوب وأنه يستحق القتل لأنه رفض تطبيق الشريعة الإسلامية عندما عرض عليه مناقشتها داخل مجلس الشعب .
في هذه الأجواء كان انضمامي للجماعة الإسلامية بهذه الطاقة الفوار بداخلي كالبركان ، والهادرة كالطوفان ، فعكفت على قراءة الكتب التي أحضرها لي أخي أو أصدقائي الجدد في الجماعة الإسلامية ، وكان منها كما ذكرت كتاب عن وجوب إعفاء اللحية ، وكتاب عن قضية الحاكمية لأحد قيادات الجماعة الإسلامية ، اسم الكتاب ( حكم المستبدل لشرائع الدين ) وهو دراسة يثبت فيها كفر الحاكم الذي يستبدل ولو شريعة وحيدة من شرائع الإسلام بغيرها من الشرائع الوضعية البشرية ، وأنه يعتبر بذلك كافر كفر أكبر مخرج من الملة مما يمهد الطريق للخروج عليه ولو بالسلاح ، وذلك ردا على بعض الجماعات السلفية التي كانت تدعي أن الحاكم الذي لا يحكم بالشرع يعتبر كافر كفر أصغر لا يخرج من الإسلام بل يعتبر فعله كبيرة من الكبائر التي لايكفر مرتكبها ، فجاء هذا الكتاب ليفرق بين الحاكم التارك للشرع ، فإنه قد يعتبر مكرها أو جاهلا وبذلك لا يكفر ، وبين الحاكم المستبدل الشرع بآخر غير فهذا كافر كفر أكبر مخرج من الإسلام مما يبيح بل يفرض الخروج عليه ولو بالسلاح .
ومن الكتب التي قرأتها في بداياتي مع الجماعة الإسلامية وشكلت تفكير ووجداني كتاب ( المصطلحات الأربعة ) لأبو الأعلى المودودي مفجر قضية الحاكمية في العصر الحديث والتي تلقفها منه سيد قطب فيما بعد وبنى عليها فكره ، وهذه المصطلحات الأربعة التي يناقشها الكتاب ويبين معانيها المختلفة هي ( الله – الرب – الدين – العبادة ) ، وهو يعتبر مقدمة لازمة لأي فرد يراد تهيئة فكره وعقله لقبول قضية الحاكمية .
ومن الكتب أيضا كتاب ( تطهير الجنان والأركان من درن الشرك والكفران ) وهو كتاب للرد على الصوفية وبيان ما عليه معتقدهم من الشرك ، وهو يشكل فكر الفرد الجديد على كره الأضرحة لأنها شرك ، والرغبة في إزالتها وتدميرها كما فعل الرسول في فتح مكة عندما حطم الأصنام وكما فعل محمد بن عبد الوهاب في الجزيرة العربية .
ومن الكتب المهمة كذلك عند كثير من الجماعات الإسلام السياسي كتاب السيرة الأشهر في العصر الحديث ( الرحيق المختوم ) وهو كتاب كان قد تقدم به صاحبه لنيل جائزة في مسابقة لأفضل بحث في السيرة النبوية كانت أعلنت عنها المملكة العربية السعودية ، ونال هذا الكتاب جائزة أفضل بحث . عشت مع هذا الكتاب بكل وجداني وأنا أتابع مراحل نشأة الرسول ، ومرحلة تكوينه ، وبعثته ، وما لاقاه مع العصبة المؤمنة من عذابات وآلام ، وبعد ذلك هجرته إلى المدينة وبداية الكفاح المسلح ، وكيف استرخص الصحابة أرواحهم في سبيل نشر الدين الإسلامي .
كنت أسير مع الرسول في هجرته ، وأشارك الصحابة في سراياهم وغزواتهم ، وصلحهم وحربهم ، حتى تم لهم التمكين في الجزيرة العربية وخضعت لهم القبائل العربية ، ودخلت في دين الله أفواجا ، وظهر الحق على الباطل وانتصرت العصبة المؤمنة .
هذا الكتاب تستخدمه جماعات الإسلام السياسي سواء الجماعة الإسلامية أو جماعة الإخوان المسلمين أو غيرها لتشكيل أفرادها فكريا وروحيا ووجدانيا على أنهم هم العصبة المؤمنة في العصر الحديث والتي تعتبر امتداد للعصبة المؤمنة الأولى التي تحملت الصعب مع الرسول حتى تم لها التمكين ، وهو نفس ما سيحدث مع العصبة المؤمنة الحديثة سوف تبتلى بالتعذيب والاعتقال والشدائد ، وسوف يتم لها التمكين في الأرض كما مكن الله للعصبة المؤمنة الأولى في الأرض بعدما صدقت في صبرها وتحملت ما لاقته بنفس راضية .
وبجوار هذه الكتب العامة كنت أدرس أبحاث الجماعة مثل كتيب صغير اسمه ( من نحن وماذا نريد ) وكتاب ( ميثاق العمل الإسلامي ) ، وهما يتميزان بأسلوب أدبي رائع .
وكذلك كتاب ( كلمة حق ) سالف الذكر الذي يثبت فيه الدكتور عمر عبد الرحمن كفر السادات .
وكذلك درست بحث ( العذر بالجهل ) وهو بحث يناقش فيه قضية كانت مثار جدل شديد داخل التيار الإسلامي عامة ، وخاصة ما بين الجماعة الإسلامية من جهة ، وجماعة الجهاد الإسلامي وتيار القطبيين من جهة أخرى .
وفكرة هذا البحث هي أن المسلم الذي يرتكب الشرك وهو جاهل ، وهو يظن أنه بذلك يتقرب إلى الله ، ويتعبد إليه لا يحكم بكفره حتى يبين له العلماء خطأه ، على العكس من جماعة الجهاد ، وتيار القطبيين الذين يحكمون بكفره لأنهم يعتبرونه معرض عن تعلم الدين وأنه يتحمل هذا الجهل لأنه لا يشغله أمر الدين أصلا فهو بذلك كافر ولا يعذر بجهله .
ومن الأبحاث المهمة التي درستها كذلك بحث خطير بعنوان ( حكم قتال الطائفة الممتنعة عن تطبيق الشريعة الإسلامية ) ، وهو بحث تقوم فكرته على إباحة دماء جنود الحاكم الكافر الذي لا يحكم بشرع الله .
لأنه إذا جاء معترض على الجماعة وقال : لماذا تقتلون الجنود مع أنكم تعذرونهم بجهلهم ولا تكفرونهم ؟ فتكون الإجابة عليهم بهذا البحث الذي يثبت فيه جواز قتل الجنود وإن كانوا جهلاء لمجرد حمايتهم للحاكم الكافر ، وأمرهم إلى الله في الآخرة ، ويستند هذا البحث على فتوى لابن تيمية تقول ( أيما طائفة ذات شوكة ومنعة امتنعت عن تطبيق شريعة من شرائع الإسلام فإنها تقاتل على الامتناع وإن أقرت بوجوب ما امتنعت عنه ) يعني لا يشترط كفرها كي تقاتل بل مجرد الامتناع تقاتل عليه حتى تلتزم بتطبيق الشرع .
من هذه الكتب وغيرها تم تشكيل فكري ووجداني بحيث أصبحت أنظر للحياة بوجه آخر غير الذي كنت عليه قبل عام واحد فقط .
فأصبحت أرى أن الله قد اختار من الحياة كلها الأديان السماوية ، واختار من الأديان السماوية الإسلام ، واختار من الإسلام مذهب أهل السنة والجماعة ، واختار من مذهب أهل السنة والجماعة ( الجماعة الإسلامية ) التي أنتمي إليها ، فنحن خلاصة الخلاصة ، بل نحن الجماعة المختارة من الله .