أحمد الخميسي
لاشك أن وراء كل أنواع الأدب تلك الذات المتفردة التي تبرز فيها خصوصية الفكر والتلقي والتعبير فيصبح الأدب تفاعلا مثمرا بين الذات والعالم الموضوعي، لكننا حين نتحدث عن " الذاتية " في الأدب بمعنى انشغال الكاتب بنفسه وذاته بحيث يسود التعبير عن همومه ومشاعره وتطغى لحد الانفصال عن الواقع، فإننا نتكلم عن طريق مسدود لا يفضي بالكاتب أو الأدب إلى شيء.

الكاتب المهووس بذاته، والذي يعتقد أن عالمه الذاتي اكتشاف أدبي ضخم يخسر موهبته حين يعتقد أن " الذات" حالة منفصلة عن الواقع وعن الطبيعة وعن الآخرين، ذلك أن كل إبداع ذاتي، علمي أو أدبي، هو قطرة يتجسد فيها عمل وحضور الآخرين. وحين يكتب الصحفي مقالا ويزهو به، فلابد أن يتذكر أن خلف ذلك المقال عمال مطابع، ومصانع ورق، ومصححا لغويا، وباعة صحف، وأيضا قراء وإلا ما كان للمقال حضور واقعي. وعندما يتباهى أحد الموسيقيين بأنهم يعزفون عملا له في الأوبرا، فلابد أن يتذكر أنه لخروج العمل إلى النور ثمت خمسون عازفا يخلقون نغماته بأعصابهم، وثمت مصانع تنتج لهم الآلات الموسيقية، وعمال مسرح، وجمهور، ويشارك كل أولئك في تحويل ما هو ذاتي إلى حقيقة موضوعية، وإلا لأصبح العمل في طي النوايا الطيبة والمخطوطات التي يخطفها النسيان. الذات الانسانية إذن، أيا كان تعريفها،" روحا"، أو " أنا " أو " نفسا" جزء لا ينفصم من جموع الانسانية،

لا يمكن عزلها عما حولها أو النظر إليها بصفتها معلقة في فراغ. وحتى أجمل قصائد الحب – التي تبدو أمرا ذاتيا – كان لابد لها من عامل خارجي ليثيرها، معشوقة أو شريكة ولو حتى في الخيال. لم يكن الشاعر وحده، بمفرده، من يكتب. وعندما يغني فنان مطرب بحساسية بالغة تكون خلف حساسيته ذكريات بعيدة، غرام منكسر، أغنيات مهد. دائما ثمت طرف آخر في كل ذات، ولذلك رأى كارل يونج مؤسس علم النفس التحليلي أن الفنان أو الأديب يعبر عن حياة البشر النفسية من خلال " اللاوعي الجمعي" المتجذر فيه. وسنجد أن كل اختراع جديد يدهشنا به أحد العلماء ليس من اكتشافه وحده في واقع الأمر، ولم يتوصل إليه بمفرده، أو بذاته، إنما هو ثمرة جهود عشرات أو مئات العلماء الذين سبقوه ومهدوا له الطريق بالنظريات والمحاولات. لكل ذلك يمكن القول إن " الذات" المفردة هي نحن جميعا بطريقة خاصة، في ترتيب مختلف، ومن ثم فإن كل مبدع هو ثمرة خاصة على شجرة الانسانية،

ترتوي منها، ولا يمكن عزلها عما حولها. وحتى عندما يعيش الانسان طويلا ويزهو بنفسه فلابد أن يتذكر أن وراء تلك الحياة الطويلة علماء اخترعوا الأدوية والأمصال، ومصانع تنتجها، وأنه ليس بذاته يحيا، ولا بذاته يكتب، إنه دائما قطرة من بحر، وومضة من كون. وهو حتى على المستوى الفيزيائي البدني لا يشكل ظاهرة منفردة، ففي بدنه توجد تقريبا كل عناصر الطبيعة المحيطة: الحديد الذي يمكن لو استخرجناه من كل بدن أن نشكل منه مسمارا قادرا على ثقب الحائط ، وعناصر أخرى، بل وحتى غبار النجوم في صميم الجسم البشري بنسبة تفوق تسعين بالمئة، وربما لذلك يمر علينا أحيانا بشر نكاد نقسم أن وجوههم منيرة وأرواحهم مشعة !
***   
نقلا عن الدستور