كمال زاخر
الأربعاء 17 مايو 2023
يفتتح الكاتب اقترابه من صفات القديس بولس بتقرير أن الصفة الأبرز عنده هى "صفة التغيير والقدرة على تخطى الماضى للإمساك بالأفضل"، وهى تضفى على صاحبها قدرة على التطور وعدم الالتفات للصراعات الصغيرة والذاتية، التى تستهلك جهد وذهن المرء، وتشتتهما بغير طائل، لذا كانت عينا القديس بولس وعقله وقلبه يبحثون عن ادراك ماهية الرب يسوع واستعلانه والالتصاق به، "أَيُّهَا الإِخْوَةُ، أَنَا لَسْتُ أَحْسِبُ نَفْسِي أَنِّي قَدْ أَدْرَكْتُ. وَلكِنِّي أَفْعَلُ شَيْئًا وَاحِدًا: إِذْ أَنَا أَنْسَى مَا هُوَ وَرَاءُ وَأَمْتَدُّ إِلَى مَا هُوَ قُدَّامُ، أَسْعَى نَحْوَ الْغَرَضِ لأَجْلِ جَعَالَةِ دَعْوَةِ اللهِ الْعُلْيَا فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ." (فيلبى13:3و14)
ولا يمكن الإقتراب من صفات القديس بولس الرسول دون أن نتوقف ملياً عند حدث ظهور الرب يسوع له "بوجهه المضئ جداً بلمعان أكثر من الشمس"، هل يمكن أن تمر هذه المقابلة مرور الكرام، وهل يمكن أن تبرح ذهن وعقل ووجدان ق. بولس؟، وبحسب الكاتب "استقرت أشعة بهاء مجد المسيح الحى واستقرت فى أعماق نفسه، وحفرت فى روحه مجد الوجه الأقدس الذى ظل يشع عليه بنور استعلان إنجيله. لقد بدأت تسرى فى كيانه الروحى عناصر استعلان المسيح، وتتسجل فى وعيه صفحة وراء صفحة ... وهو ما سجله ق. بولس "وَنَحْنُ جَمِيعًا نَاظِرِينَ مَجْدَ الرَّبِّ بِوَجْهٍ مَكْشُوفٍ، كَمَا في مِرْآةٍ، نَتَغَيَّرُ إِلَى تِلْكَ الصُّورَةِ عَيْنِهَا، مِنْ مَجْدٍ إِلَى مَجْدٍ، كَمَا مِنَ الرَّبِّ الرُّوحِ." (2كو18:3)
لعل التأثير الأكبر هو "نمو الروح نحو الجمال والكمال بحسب صورة المسيح فى مقابل تقهقر الجسد بأخلاقه ووميوله وشهواته، وانسحابه تدريجياً أمام متطلبات الروح، "وَإِنْ كَانَ إِنْسَانُنَا الْخَارِجُ يَفْنَى، فَالدَّاخِلُ يَتَجَدَّدُ يَوْمًا فَيَوْمًا."، "لاَ تَكْذِبُوا بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ، إِذْ خَلَعْتُمُ الإِنْسَانَ الْعَتِيقَ مَعَ أَعْمَالِهِ، وَلَبِسْتُمُ الْجَدِيدَ الَّذِي يَتَجَدَّدُ لِلْمَعْرِفَةِ حَسَبَ صُورَةِ خَالِقِهِ"، هكذا يحدد القديس بولس رؤيته للانتقال من اهتمامات الجسد إلى اهتمامات الروح.
وقد انعكست هذه الرؤية على حياة القديس بولس نفسه، وبدأ يرى الأمور بعيون واعية، انفتحت على الحياة الجديدة بعد أن استنارت برؤية المسيح وجهاً لوجه، فكانت استنارته قبس من ذاك النور الأعظم، ربما كما صار لموسى عندما لمح طيف الله، "وَكَانَ لَمَّا نَزَلَ مُوسَى مِنْ جَبَلِ سِينَاءَ وَلَوْحَا الشَّهَادَةِ فِي يَدِ مُوسَى، عِنْدَ نُزُولِهِ مِنَ الْجَبَلِ، أَنَّ مُوسَى لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ جِلْدَ وَجْهِهِ صَارَ يَلْمَعُ فِي كَلاَمِهِ مَعَهُ. فَنَظَرَ هَارُونُ وَجَمِيعُ بَنِي إِسْرَائِيلَ مُوسَى وَإِذَا جِلْدُ وَجْهِهِ يَلْمَعُ، فَخَافُوا أَنْ يَقْتَرِبُوا إِلَيْهِ. (خروج 29:34و30).
استطاع القديس بولس أن يحل معضلة الصراع بين الجسد والروح، ويفكك المتناقضات "لحساب حياة بولس الروحية"، ويستعرض الكاتب ابرز هذه المتناقضات وكيف واجهها القديس بولس، فقد تحولت معاناته من المرض، التى تضرع فيها إلى الرب أن تفارقه، فكان الرد الإلهى "تكفيك نعمتى لأن قوتى فى الضعف ُكمَل"،وبعلق الكاتب "لم ييأس بولس ولم يستكن لضربة الشيطان، ولم يفرزها كأنها غرامة بلا مقابل، بل سلط عليها نعمة المسيح، فرآها جزءاً لا يتجزأ من خلاصه، وضماناً لمزيد من الإرتفاع والتعمق، فهتف بروح الانتصار وهو تحت المرض "فَبِكُلِّ سُرُورٍ أَفْتَخِرُ بِالْحَرِيِّ فِي ضَعَفَاتِي، لِكَيْ تَحِلَّ عَلَيَّ قُوَّةُ الْمَسِيحِ. 10لِذلِكَ أُسَرُّ بِالضَّعَفَاتِ وَالشَّتَائِمِ وَالضَّرُورَاتِ وَالاضْطِهَادَاتِ وَالضِّيقَاتِ لأَجْلِ الْمَسِيحِ. لأَنِّي حِينَمَا أَنَا ضَعِيفٌ فَحِينَئِذٍ أَنَا قَوِيٌّ." (2كو9:12و10).
ليس هذا فقط بل بحسب الكاتب "يضيف آلامه لحساب الكنيسة ... فآلام القديسين التى عانوها على التقوى تشددنا"، إذ "يرتفع بمفهوم التعاذيب والألام التى عاناها فى جسده ليضعها بجوار تعاذيب صليب المسيح، ويضمها إليها بجرأة يُحسد عليها، "الَّذِي الآنَ أَفْرَحُ فِي آلاَمِي لأَجْلِكُمْ، وَأُكَمِّلُ نَقَائِصَ شَدَائِدِ الْمَسِيحِ فِي جِسْمِي لأَجْلِ جَسَدِهِ، الَّذِي هُوَ الْكَنِيسَةُ" (كولوسى24:1)
وينبهنا الكاتب "إلى أن منهج بولس الأساسى هو فى (التعويض)، فهو يرى أن كل تعذيب نجوزه، حتى إلى حد اموت، هو هو بعينه قد وُهبَ لنا لينشئ فينا حياة "حَامِلِينَ فِي الْجَسَدِ كُلَّ حِينٍ إِمَاتَةَ الرَّبِّ يَسُوعَ، لِكَيْ تُظْهَرَ حَيَاةُ يَسُوعَ أَيْضًا فِي جَسَدِنَا. لأَنَّنَا نَحْنُ الأَحْيَاءَ نُسَلَّمُ دَائِمًا لِلْمَوْتِ مِنْ أَجْلِ يَسُوعَ، لِكَيْ تَظْهَرَ حَيَاةُ يَسُوعَ أَيْضًا فِي جَسَدِنَا الْمَائِتِ." (2كو10:4و11).
يواصل الكاتب رصد المتناقضات التى تحولت إلى قيم ايجابية فى حياة القديس بولس، فالاتضاع يقابله الشموخ، والرقة يقابلها الحدَّة، والحزن يقابله الفرح، والخوف والضيق واليأس يقابله الرجاء والعزاء والفرح.
ما الذى جعل من القديس بولس مواطناً عالمياً، أو بحسب تعبير الكاتب الأدق "مواطن العالم كله"؟، هى الطاقة التى اجتاحت وملأت كيانه، الوجدان والعقل، التى ولَّدتها تلك المقابلة المتفردة والمحورية فى حياة بولس، حتى أنه لم يعد قادراً أن يعطى لعينه نوماً ولا لاجفانه نعاساً، حتى بتعبيره "اتمم بفرح سعيي والخدمة التي اخذتها من الرب يسوع، لاشهد ببشارة نعمة الله."
ويورد الكاتب منهج بولس الرسول واقراره به "فَإِنِّي إِذْ كُنْتُ حُرًّا مِنَ الْجَمِيعِ، اسْتَعْبَدْتُ نَفْسِي لِلْجَمِيعِ لأَرْبَحَ الأَكْثَرِينَ. فَصِرْتُ لِلْيَهُودِ كَيَهُودِيٍّ لأَرْبَحَ الْيَهُودَ. وَلِلَّذِينَ تَحْتَ النَّامُوسِ كَأَنِّي تَحْتَ النَّامُوسِ لأَرْبَحَ الَّذِينَ تَحْتَ النَّامُوسِ. وَلِلَّذِينَ بِلاَ نَامُوسٍ كَأَنِّي بِلاَ نَامُوسٍ مَعَ أَنِّي لَسْتُ بِلاَ نَامُوسٍ ِللهِ، بَلْ تَحْتَ نَامُوسٍ لِلْمَسِيحِ لأَرْبَحَ الَّذِينَ بِلاَ نَامُوسٍ. صِرْتُ لِلضُّعَفَاءِ كَضَعِيفٍ لأَرْبَحَ الضُّعَفَاءَ. صِرْتُ لِلْكُلِّ كُلَّ شَيْءٍ، لأُخَلِّصَ عَلَى كُلِّ حَال قَوْمًا. 23وَهذَا أَنَا أَفْعَلُهُ لأَجْلِ الإِنْجِيلِ، لأَكُونَ شَرِيكًا فِيهِ."
ولم يعتمد القديس بولس على معارفه الفلسفية ولم يقحمها فى رسائله، بل ترك قلمه لتوجيه الروح، ليصل إلى ابسط قارئ، وأعمق عقل، ويوجز الكاتب هذا فى كلمات قليلة "رسائل بولس الرسول لا تمثل فى واقعها فكر بولس الفلسفى، بل هى وحى الروح وتَدَافُّع من النعمة، استوعبها القديس بولس فملكت عليه ملكاته وصاغت لغته وأدبياته، فإحتفظت بلماسته ويهوديته وتراث أجداده. ولكنها فى خلاصتها، هى عطية الله للكنيسة، كنيسة الدهور لكل العالم، ليس لها وطن تستقر فيه، لأن مصدرها ومقرها السماء، لهذا بقيت رسائل بولس الرسول فعَّالة تجدد وجه الأرض."
يقترب الكاتب من منطقة شائكة نتجنب الكلام فيها، وهى "المنهج السياسى عند بولس الرسول"، وهى مساحة محل جدل عند قراء بولس الرسول، لكن الكاتب يرصدها ولا يُقِّيمها، فيرى أن القديس بولس قد تغير فى النظر إلى "الإمبراطور والحكومة الرومانية المسيطرة على البلاد التى كانت فى اعتبار يهود فلسطين كعدو، وكانوا يصلُون إلى الله ضدها ويعبّئون المشاعر ضدها لمقاومتها بكافة الوسائل، إن بالعصيان أو بالحرب، وإذ ببولس الرسول، الذى صار حراً من الجميع، مستوطناً السماء، ومتغرباً على أرض الإنسان، لا يعود يرى الملك المستعمر إلا مختاراً من الله، ومعيناً من قِبلِه، يتحتم الخضوع له والصلاة من أجله"، ويرى الكاتب "أن هذه النظرة التى ظلت حتى اليوم فى كل ممالك الأرض حصن أمان للمسيحى أن يحيا فى سلام مع الجميع".
ينتقل بنا الكانب إلى انفتاح بولس الرسول على الأمم، شعوب العالم غير اليهود، بالمخالفة لما استقر عنده كفريسى منحاز ليهوديته قبلاً، وقد استطاع ق. بولس بحسب الكاتب بهذا الانفتاح الذى قدم لهم المسيح "أن ينقل ملكية الله لشعب اسرائيل دون سواه إلى ملكيته للأمم أيضاً بدون تمييز" (إِذًا نَحْسِبُ أَنَّ الإِنْسَانَ يَتَبَرَّرُ بِالإِيمَانِ بِدُونِ أَعْمَالِ النَّامُوسِ. 29أَمِ اللهُ لِلْيَهُودِ فَقَطْ؟ أَلَيْسَ لِلأُمَمِ أَيْضًا؟ بَلَى، لِلأُمَمِ أَيْضًا ـ رومية 28:3و29). ويعلق "هذه المقولة لو سمعها منه يهودى ارثوذكسى لقتله".
ويرى ق. بولس أن الضمير الانسانى فى مجمله هو صدى لصوت الله وليس أقل من مفردات الناموس، فاستحق ان نعتبره "مواطن كل العالم".
يختتم الكاتب هذا الفصل بالبحث فى إجابة سؤال "ماذا بقى من يهودية بولس؟"، وفيها كان الناموس مدرسته التى تأدب فيها لحساب المسيح، وعلى غير المتوقع فإننا نجده، وبعد أن عرف المسيح، يراهن على كل أمجاده الشخصية كفريسى مرموق، فى سبيل الإيمان بالمسيح والتقرب إليه والبقاء فى نوره العجيب... وأخيراً نقول أن بولس الرسول لم يرتد عن اليهودية ـ كما رآه أهل دينه القديم ـ حتى يُطَالب منا بجحد يهوديته وبتجاهلها والإقلاع عن ذكرها، بل أن بولس الرسول امتد بيهوديته ليطهّرها فى نور استعلان المسيح بغسل الدم، ألم يقل المسيح "ما جئت لأنقض بل لأكمِّل" (متى 17:5).
ينتقل بنا الكاتب إلى أدوات الفكر اللاهوتى عند القديس بولس" ونفسح له المقال القادم.