بقلم : نبيل شرف الدين

 كان المشهد دراميًا بامتياز لو اجتهد سيناريست فى رسم ملامحه لفشل فى محاكاة ما جرى فجر أحد الأيام الماضية، فكثيرًا ما يتجاوز الواقع الخيال وهو ما حدث حين اجتمع نحو عشرة أشخاص فى مطار القاهرة لوداع صديق العمر الذى قرر الهجرة لبلاد العم سام، رغم مناقشات امتدت بيننا شهورًا ونحن نحاول إثناءه عن هذا القرار، خاصة أنه رجل أعمال ناجح، وخبير له وزنه فى مجال تقنية المعلومات، لكننا فشلنا.

كان الصمت سيد الموقف، ونحن بانتظار موعد الطائرة التى ستحمل رفيق العمر الذى ارتبطت بصداقته منذ الصبا، وفشلت محاولات البعض لتجاوز اللحظة العصيبة بنكتة أو تعليق ساخر، إذ كانت مخيلتى تستعيد مواقف عبر عقود مضت عشنا خلالها نزق المراهقة ومغامرات الصبا، وصولا لخيارات العمر، وساند كل منا الآخر فى شتى المحن.

يا إلهى لماذا يرحل الطيبون والناجحون، ولا يبقى سوى قليل ممن حسموا خياراتهم بالعيش فى مصر مهما كان الثمن، وما السبب الذى يدفع المرء لهجرة وطنه وأهله، ووداع ذكرياته ورفاق عمره؟

مواقف كثيرة راحت تتزاحم فى مخيلتى كأنها شريط سينما، كيف غامرنا مرات بالسفر شمالا وجنوبًا زمن المراهقة رغم احتجاج أهلنا، وحكايات الحبّ الأول التى تسفر عادة عن نهايات مأساوية، وكيف اخترنا زوجاتنا وتشاورنا طويلاً فى الأمر، وكيف تشاركنا السعادة بإنجاب الطفل الأول، حتى اكتشفنا فجأة أننا «هرمنا» حين وجدنا أبناءنا على عتبات الجامعة، وليالى طويلة قضيناها بأماكن غريبة، وذكريات عصيبة أوجعتنا وتجاوزناها بفضل الله ودعمنا لبعضنا، وكيف هذبتنا التجارب المريرة لنصبح أكثر تعقلا وحكمة بعدما طحنتنا قسوة الحياة.

قبيل سفره بأيام طلب أن أتفرغ لصحبته قدر الإمكان، زرنا الأهرامات والمتحف المصرى وحديقة الأسماك، وتمرغنا على حشائش حديقة طريق المطار الذى كانت لنا معه ذكريات لا تُنسى، خاصة أننا أمضينا نحو أربعين عامًا فى «مصر الجديدة» التى نعرف كل شبر فيها، ولنا معها حكايات لا تنتهى.

كنا نتحدث فى كل شىء إلا السياسة، فقد بلغ اليأس بصديقى درجة لم تعد تصلح معها المناقشات، فهو ـ رغم نجاحه ـ لا يريد البقاء بمصر لسبب بسيط: ألا يكابد أبناؤه المحنة التى تشهدها البلاد، ولا يبدو فى الأفق المنظور حلّ واضح، قالها لى بصدق اعتدناه معًا: «لن أعيش أكثر مما عشت، لكن لماذا يعانى أبنائى الغربة فى وطنهم، لأنهم ليسوا من «الأهل والعشيرة»، والأدهى أنهم مسيحيون، وأن أيامًا عصيبة تنتظرهم ولن تحميهم أموال ولا تعليم، ومضى يسترسل برسم صورة سوداء لمستقبل مصر، ولم تفلح محاولاتى لإقناعه بأننا نستطيع المشاركة فى استعادة وطن مختطف، وترسيخ هوية وطنية مهدّدة، وأن الهجرة خلاص فردى أنانى، فلو فكر كل منا بهذه الطريقة لصارت مصر عاصمة للتطرف ومرتعًا للإرهاب.

حسم صديقى الجدل قائلاً: إنه القرار الأصعب بحياته، وإن مصر ستظل متربعة فى وجدانه حتى لو ابتعدت المسافات، وقد يعود ليعيش شيخوخة هادئة قبل أن يدفن فى ثراها، لكنه مسؤول عن ترتيب أوضاع أبنائه فى بلد لا يحتقرهم لأنهم (نصارى) ولتكن مشيئة الله، فإذا اختار الأبناء البقاء فى أمريكا فليكن لهم، وإذا قرروا العودة سيرجعون ومعهم «باسبور أمريكى» يحميهم من الاضطهاد.

لم تسعفنى قدراتى على الإقناع فكريًا وعاطفيًا فى إثنائه عن قراره، خاصة أن زوجته وأبناءه يضغطون عليه للهجرة، وله أقارب سيمهدون طريقه للعمل هناك، ويمتلك ثروة لا بأس بها كبداية، والأهم خبرة عريضة فى مجال عمله، وكل أسرته تتقن الإنجليزية لدراستهم بمدارس أمريكية.

«كان الوداع ابتساماتٍ مبللةً.. بالدمع حينًا، وبالتذكار أحيانًا»، كانت فيروز تشدو بهذه الأغنية فى مصادفة غريبة وأنا أستقل سيارتى عائدًا بعد وداع صديقى، ودمعة حارة فاضت بها عيناى فى لحظة شجن، لدرجة لم أستطع معها مواصلة السير، فتوقفت لأبكى وحيدًا بحرارة، أشكو لربى هذا المصير المؤلم، وأسأله الرحمة والصبر.