الأقباط متحدون - نملك الحب ونقدمه .. فلماذا يكرهوننا؟!
أخر تحديث ٠٦:٥٧ | الأحد ١٧ فبراير ٢٠١٣ | ١٠ أمشير ١٧٢٩ ش | العدد ٣٠٤٠ السنة الثامنة
إغلاق تصغير

شريط الأخبار

نملك الحب ونقدمه .. فلماذا يكرهوننا؟!

في عتمة ليل مازال يتلمس فجرًا لم يبزغ بعد، نتوق إلى لحظة نور هنا  أو هناك، فكل ظلمات الدنيا لا تقوى على مصادرة شعاع نور مهما خفت، ومعه نجدد طاقة الصمود في مواجهة ركام سعي الإظلام الممنهج الذي يحاصرنا ويحشد أسلحة دماره بغطاءات مزيفة.

أول أمس عشت واحدة من تلك اللحظات مع مجموعة من الشباب المصري الرائع، هم بالضرورة نفس الشباب الذي فاجأنا بحراكه وحيويته وثوريته فجر 25 يناير، كانت الدعوة لاحتفالية فنية مصرية بنكهة قبطية، كانت المناسبة تكريم مؤسسها وراعيها بعد رحيله وفاء وحبًا، كانت المفاجأة أنها لم تكن تأبينًا أو سرادق عزاء أو بكائية تستحضر مناقبه وتنوح عليها، بل كانت سويعات من الفرح والبهجة والأمل، بروح شباب مازال يخطو خطواته الأولى في حياته العملية ما بعد الجامعة، كان عازف الناي يضع ضمادة على عينه اليمنى، تسأل عنها فتعرف أنها إصابة بخرطوش أمام الاتحادية، تنتظر تدخلًا جراحيًا في سلسلة ممتدة من العمليات الدقيقة، وقف ليسكب شجنه ومشاعره، رغم تحذيرات طبية مشددة بعدم العزف، لكنه الحب والوفاء والإبداع.
 
توالت ترنيماتهم وفواصل التقديم، بأداء وأصوات مصرية لشبان وشابات يملكون عذوبة الصوت ورقة الأداء وحميميته، وانضباط اللغة، كانت الكلمات تحتشد بالقيم المسيحية التي يختزنها الضمير الإنساني، فإذا بها باقة من التسامح والعطاء والإيثار، تستحضر تعاليم المسيح عن البذل حتى الموت من أجل الغريب واليتيم والضيف، ومن أجل من ليس لهم أحد يذكرهم، إجمالًا من أجل الإنسان لكونه إنسانًا، دون انتظار لمردود أو مقابل، إنه الحب المجرد، الذي لا يشترط علاقة دم أو أيديولوجية أو روابط مصالح، حب يؤسس لسلام حقيقي وتناغم مجتمعي، يفتح أبواب التقدم والتنمية والنجاحات والقوة.
 
 عذوبة الأداء وحرفية الإخراج بإمكانات الشباب المبدع خرجت بي من نطاق وجدران قاعة الاحتفالية على اتساعها واحتشادها، إلى فضاء وطن محتشد بدعوات الكراهية والترصد، وكأنه لم يشهد لحظات اندماج وطني في بوتقة التحرير قبل الاختطاف، كانت المقارنة بين منظومة قيم الاحتفالية وواقع الجهامة المفزع خارجها مُحزنة، كيف يقابل الحب بالكره، وكيف يتواجه الإيثار بالإثرة، ما موقع رفض الآخر في مشهد يبحث عن تضميد جراحه، وما هذا الصمت غير المبرر، وربما المريب من أصحاب القرار في تعقب دعوات الفرقة والتمايز وبعث سنوات الاحتقان والإرهاب، ما هذا القبح الذي فرض سطوته بفجاجة على فضائيات تكره الحياة وتخاصم الفرح، وتدمر حقائق تاريخية على الأرض،  تقول إن القيم المغيبة بفعلهم هي طوق النجاة لوطن يئن ويحتضر تحت وطأة معاول هدمهم.
 
مسيحيو مصر بشهادة التاريخ وبشهادة خبرة الشراكة الوطنية يملكون حبًا وقدرة على العطاء، وصمودًا لا يقدر معاندوهم على هزيمته، يحتملون موجات التطرف وصمت الحكام ومؤامرات غلاة المتطرفين، ومرد هذا أن مسيحيتهم تقوم على يقينة الفداء، التي فيها قدم "المسيح" نفسه فدية وقربانًا عن كل العالم على اتساع الجغرافيا وسرمدية التاريخ، ومازال، ومن ثم اكتمال إيمان المسيحي مرتهن بقدرته على العطاء المعجون بالحب، على خلفية تحذير الإنجيل بحسب المسيح "إن أحببتم الذين يحبونكم فأي فضل لكم، فإن الخطاة أيضا يحبون الذين يحبونهم"، هكذا فهم الأقباط إيمانهم وترجموه، ولهذا يتمسكون بالأرض والوطن ويقاومون التهميش والتهجير ويحتملون دورات الإرهاب، لكنهم أبدًا لن يخونوا تاريخهم وقيمهم، باقون ما بقي الوطن، يستدقئون ويستقوون بشركائهم الأمناء وهم كثر، والقاعدة الأكبر في مواجهة غوغاء التطرف الأعلى صوتًا وضجيجًا وفراغًا.
 
كانت الاحتفالية إعادة إنتاج لمفهوم الوفاء والحب، كان المحتفى به الدكتور هاني صابر (1964 ـ 2013) حاضرًا في إبداعات شباب فريق "أغسطينوس" للتسبيح، ويمتد الإبداع في اختيار اسم الفريق وهو القديس أغسطينوس ـ القرن الرابع الميلادي ـ  ابن شمال إفريقيا، من أصول أمازيغية جزائرية، والمؤسس للاهوت الغربي بفلسفة متحررة من قيود القراءة الحرفية للنصوص، يذكرنا بدوره بابن رشد ـ القرن الرابع الهجري ـ على الشاطئ الآخر من محيط الفلسفة، والقادم من الأندلس، كلاهما أسس لإعمال العقل في قراءة النص وتأويله، كلاهما ينتمي للقرن الرابع كل بحسب تقويمه، نجح كلاهما في فض الاشتباك بين الدين والفلسفة في مصالحة فكرية وعقلية مدهشة، وكلاهما انتصر للإنسان واقترب من روح النص، كلاهما أنسن الدين ورفض الترويع كمدخل لتثبيت وفرض طرحهم ومن ثم طرح الإيمان.
 
كان الدرس المستفاد من الاحتفالية أن جيوش الكراهية وإن امتلكت اللحظة عنوة لن تقوى على الصمود أمام شعاع حب واحد، لذلك فمآلها الزوال، سيجرف نهر مصريتنا جهامة وكآبة وجوههم وطرحهم المتزيف، وستنتهي جملة كراهيتهم الاعتراضية غير المبررة، وسنظل نقدم حبًا وعطاءً، وسنظل نسأل: لماذا يكرهوننا؟.. ويبقى الرهان قائمًا على شباب مصر، وسرها المتجدد.  

نقلاً عن بوابة نيوز

More Delicious Digg Email This
Facebook Google My Space Twitter
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع