الأقباط متحدون - فى وداع مانديلا!
أخر تحديث ١٣:٤٢ | السبت ١٤ ديسمبر ٢٠١٣ | كيهك ١٧٣٠ ش ٥ | العدد ٣٠٤٠ السنة التاسعه
إغلاق تصغير

شريط الأخبار

فى وداع مانديلا!

مانديلا
مانديلا

 عملاق يبتسم فى كل صورة من صوره، وفى كل جانب من جوانب حياته، وفى كل عمل يقوم به.

 
الرجال البيض عامة طوال القامة لكن نلسون مانديلا أطول قليلاً منهم، بحيث اضطر دى كليرك رئيس جنوب أفريقيا الأبيض الذى أطلق سراح مانديلا منذ حوالى ربع قرن، وفاوضه فى إلغاء قوانين الفصل العنصرى، وإعطاء الأفارقة السود أصحاب البلاد الحق فى المشاركة السياسية والانتخابات الرئاسية التى حملت مانديلا إلى قمة السلطة فى جنوب أفريقيا بعد عامين من إطلاق سراحه- أقول إن مانديلا كان خلال وقوفه مع دى كليرك يضطره دون قصد طبعاً ليرفع إليه عينيه وهو يخاطبه على حين ينظر إليه مانديلا مبتسماً من فوق.
 
والبشر العاديون يعيشون ستين عاماً ويشكرون ربهم على ما آتاهم، فإذا امتد بهم العمر عاشوا سبعين عاماً، وإذا بلغوا الثمانين اشتكوا ما يلقونه فيها من انحطاط القوى واضمحلال الحواس، وقال قائلهم ما قاله الشاعر العربى القديم: إن الثمانين وبلغتها قد أحوجت سمعى إلى ترجمان! أما مانديلا فقد عاش خمسة وتسعين عاماً، ورحل فى السادسة والتسعين دون أن يشكو شيئاً، مع أن أسباب الشكوى لابد أن تكون موجودة.
 
والمناضلون العنيدون يزج بهم فى السجون عاماً أو بضعة أعوام. أما مانديلا فقد دخل السجن فى أوائل الستينيات من القرن الماضى ولم يغادره إلا فى آخر الثمانينيات. سبعة وعشرون عاماً قضاها فى القيود وخرج مبتسماً يرقص ويغنى!
 
والناس يتعرضون لأذى الناس، فيرد الواحد منهم على ما تعرض له بالمثل، أو يترفع فلا يرد ويمضى لسبيله. أما مانديلا فقد تعرض للموت، وعاش ثلث عمره فى سجون ساقه إليها نظام منحط شرير لم يترك لضحاياه أى أمل فى أنه سوف يراجع نفسه فى يوم ما، غداً أو بعد غد، فعلى ضحاياه أن يستسلموا لقدرهم ويرضوا بمصائرهم، لكن مانديلا لم يستسلم ولم يرض ولم يفقد أمله، ولم يكف سبعة وعشرين عاماً قضاها فى السجن عن الابتسام، كأنه كان فى السجن يعيش حياته ويحقق ذاته، أو كان يراه فرصة يستعيد فيها هدوءه ويستمع لنفسه، وحين خرج من سجنه، وأصبح فى وسعه ومن حقه أن يسائل الذين نكلوا به تنازل عن هذا الحق، ولم يفكر فى الانتقام من هؤلاء الذين صادروا حريته بل صادروا حياته وحياة الملايين من أبناء شعبه، الذين سقطوا فى الشوارع برصاص البيض، واصطيدوا فى الغابات كما تصطاد الأرانب والوعول، وانتزعوا من أراضيهم وأخرجوا من ديارهم، وألزموا البقاء فى مناطق لا يغادرونها والحركة فى مساحات لا يتجاوزونها، وحتى الاغتسال كان فى حمامات مخصصة لهم وحدهم، لا يستطيعون أن يستبدلوا بها ما خصص لغيرهم، أو يقضى الواحد منهم حاجته فى حمامات البيض. بل لقد وصل الفصل العنصرى إلى الحد الذى أصبحت فيه الدولة تتدخل لمنع الزواج بين شاب ملون وفتاة بيضاء أو العكس، فإذا ضُبِطَ العاشقان متلبسين بقبلة مختلسة سيقا للمحاكمة لا بتهمة الخروج على الآداب العامة كما يمكن أن يحدث عندنا، بل حوكما بتهمة الخروج على قوانين الفصل العنصرى، وهذا ما تصدى له دستور جنوب أفريقيا الجديد، الذى صدر بعد إلغاء هذه القوانين، إذ جاء فى المواد المتعلقة بالمساواة أنه «لا يجوز للدولة أن تميز تمييزاً جائراً بطريقة مباشرة أو غير مباشرة ضد أى مواطن فيما يتصل بالعنصر، والنوع الاجتماعى، والسلالة، والأصل، واللون، والميول الجنسية»! وأظن أنه الدستور الوحيد فى العالم الذى تصدى لهذه المسألة وأعلن أن الحب حق للجميع وأن اختلاف اللون لا يفسد للحب قضية!
 
وأعود فأقول إن مانديلا الذى خرج من السجن متوجاً بالغار، مسلحاً بالتفاف الملايين من أبناء شعبه، وإعجاب العالم وتقديره وإدانته الصريحة للجرائم التى ارتكبت فى ظل الفصل العنصرى لم يجدها فرصة لمحاسبة المجرمين أو معاقبتهم، بل وجدها على العكس فرصة لمصالحة وطنية يطوى فيها الجميع صفحة الماضى، ويبدأون عصراً جديداً يكون فيه السود والبيض والسمر والصفر جماعة وطنية واحدة متعددة الألوان واللغات والثقافات والديانات، لأن اختلاف اللون لا يفسد للصلح قضية. هكذا ابتسم مانديلا، ومد يده للذين اضطهدوه فتحول الزنوج والهولنديون والإنجليز والألمان والفرنسيون والهنود أمة واحدة.
 
بل إن مانديلا لم يكتف بالابتسام والمصافحة وإنما رقص أيضاً وغنى، لأنه كان يحب الرقص والغناء، كما كان يحب الناس، ويخرج من مغامرة ليدخل فى مغامرة. وقد قرأنا ما نشرته الصحف عن زيجاته الثلاث وعن قصة حب أخرى لم تكتمل مع امرأة جميلة من أصول هندية، وهذا جانب فى شخصية مانديلا جدير هو الآخر بالالتفات والإعجاب.
 
مانديلا، وهو شخصية استثنائية بحق، كان حريصاً دائماً على أن يؤكد أنه رجل عادى، وإنسان ككل إنسان، وأنه يحب ويكره، ويغضب ويرضى، ويستسلم أحياناً لعواطفه ويستجيب لرغباته. لكن مع هذا لا ينسى واجباته، ولا يقصر فى أدائها، ولا يخلط بين ما يريد لنفسه وما يجب عليه للآخرين، ولا يستكثر على غيره ما يراه حقا له. ولهذا سلم للبيض بحقهم فى الاحتفاظ بما حصَّلوه بعملهم ولم يستولوا عليه دون حق، وهى سياسة انفرد بها مانديلا دون غيره من الزعماء الأفارقة والآسيويين الذين استولوا على ممتلكات المعمرين الأوروبيين بعد حصولهم على الاستقلال، وطردوهم من بلادهم كما حدث فى الجزائر وفى الهند الصينية، والقاعدة التى اتبعها مانديلا فى السياسة اتبعها فى حياته الخاصة، فهو يسلم لزوجته بما يرى أنه من حقه، وقد طلبت زوجته الثانية الانفصال عنه بعد حياة مشتركة دامت أربعين سنة فوافق على الانفصال.
 
ورؤساء الدول، خاصة فى أفريقيا، يدخلون باب القصر الرئاسى ويرفضون بعد دخولهم أن يخرجوا.. لا يكتفون بمدة واحدة يقضونها فى الرئاسة، بل يجعلونها مدتين فإذا استنفدوهما طلبوا مدة جديدة، فإذا كان هذا مخالفاً للدستور غيروا الدستور ووجدوا من يغيره لهم، ثم لا يقنعون بعد ذلك بأى زيادة، وإنما يواصلون الاستزادة متشبثين بالسلطة معتصمين بالقصر الجمهورى حتى يخرجهم منه ما أخرج بن على، ومبارك، والقذافى، أما مانديلا العملاق المبتسم، الزعيم البطل، صاحب الحق المتنازل، المصالح المتسامح، العاشق المحب، الراقص المغنى، أما هذا الرجل الذى حمله العالم كله إلى سدة الحكم فقد بقى فى الرئاسة مدة واحدة لا أكثر، خمس سنوات لم تزد يوماً واحداً، ثم تركها لمن واصلوا بعده الطريق.
 
هذه السمات وهذه الشمائل التى قلما اجتمعت لرجل واحد فتنت الناس وما زالت تفتنهم، وحولت مانديلا من شخص إلى مثل فريد أعلى، أو أيقونة كما يقال فى هذه الأيام، مع أن الرجل كما ذكرت ظل حريصاً على أن يتصرف كما يتصرف أى إنسان عادى، وهذه ميزة أخرى، أنه لم يكن يرى نفسه مختلفاً عن غيره، بل كان حريصاً دون تعمد أو اصطناع على أن يتكلم ويتحرك ويعيش كما يعيش سائر البشر.
 
ومن الطبيعى أن يكون هذا الجانب فى شخصية مانديلا لافتاً مثيراً، وأن يصبح محوراً أساسياً فى الفيلم الذى جسد شخصية مانديلا، وصور نضاله الطويل فى سبيل الحرية واعتمد فيه كاتب السيناريو على ما جاء فى المذكرات التى تحدث فيها مانديلا عن نفسه، وسجل ما وقع له فى حياته.
 
نلسون مانديلا أسطورة لا نكاد نرى مثيلاً لها، لكنها مع تفردها موصولة بما سبقها وما لحقها، بالحرب التى قادها إبراهام لنكولن لتحرير الزنوج الأمريكيين، ودفع حياته ثمناً لحريتهم، ووصول مانديلا لرئاسة جنوب أفريقيا فتح الطريق أمام أوباما لرئاسة الولايات المتحدة، والانتصارات التى حققها البشر على الأحزاب العنصرية تفتح أمامنا طريق الانتصار على الإرهابيين المتاجرين بالدين!


نقلا عن المصري اليوم

More Delicious Digg Email This
Facebook Google My Space Twitter
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع