عاطف بشاي
من ترع النيل ومصارفها وطميها.. ومن رائحة الأرض وغيطان زهر القطن، خرج «سفراء البسطاء» والفقراء شعراء العامية الكبار «عبدالرحمن الأبنودى» و«أحمد فؤاد نجم» الشهير بـ«الفاجومى» و«سيد حجاب»، يمثلون سنابل الرجاء في وطن جديد يسوده العدل والرحمة والمساواة.. وبناء نهضة حقيقية لشعب عانى طويلًا فساد حكم الملك.. وسيطرة الإقطاع والرأسمالية المستغلة، الذين أجاعوه وأفقروه.. وكان ثلاثتهم في رحلة عطائهم الطويلة مندوبى هؤلاء البسطاء ولسان حالهم الأمين.. وغاب الفاجومى عنهم، حيث واراه التراب في (3 ديسمبر 2013)، بعد أن صافحهم مودعًا فردًا فردًا في الأزقة والحوارى والمقاهى و«بيوت الزلزال» و«حوش آدم» وعشوائيات «عزبة القرود» و«أرض اللواء» وتقاسم معهم اللقمة وشاركهم الغناء والغذاء وشظف العيش والزنازين، فوضعوه في حدقات العيون.. وأشعلوا بأشعاره الملتهبة الميادين والشوارع والجامعات.. وأثاروا الرعب في قلوب الجلادين.. وهزئوا معه بالنخبة «الرخوة» والأفنديات ذوى الياقات المُنشَّاة والألسنة المتحذلقة.. وسخروا معه من ازدواجيتهم وفصامهم.. ورددوا معه: «يعيش المثقف على مقهى ريش/ محفلط مزفلط كثير الكلام عديم الفعل».

كان «نجم» مدعوًّا لتسلم الجائزة الكبرى من مؤسسة «الأمير كلاوس» الثقافية وحضور العشاء الملكى بأمستردام مع الملوك والرؤساء.. تقديرًا لتأثيره الكبير في عدة أجيال مصرية وعربية من خلال أشعاره التي ألهمت ثلاثة أجيال.. حيث تميزت بحس نقدى ساخر يؤكد معانى الحرية والعدالة الاجتماعية، وكان مقررًا أن يسافر فجر الأربعاء (11 ديسمبر).. لكنه أحس أنه سوف يخون أصدقاء الفقر الذين عاش بهم ومعهم وهو يرتدى في الحفل «الاسموكن» ويدخن «البايب» ويأكل بملعقة من ذهب.. أحس أنه سيكون غريبًا في المجتمع المخملى.. وربما نسى مثل «شابلن» في فيلم «العصر الحديث» أن يرتدى البنطلون وهو ذاهب إلى حفل أرستقراطى فأثار الضحكات.. رفض «نجم» أن يسافر.. مات!!.

■ ■ ■

أما «سيد حجاب»، الذي وُلد في عام (1940) بالقرب من شاطئ بحيرة المنزلة بالدقهلية.. متأثرًا بغناء الصيادين.. يشاركهم معاناتهم.. يلتقط مفرداتهم اللغوية العذبة المغموسة في قهر الزمان.. وعذاب الدهر وظلم السلاطين.. ويحولها إلى صيحات اعتراض حزينة.. ونغمات أسى مقيم بلسان حكيم.. وروح ثائر وضمير فيلسوف حائر بين اليأس والرجاء.. بين ماضٍ تعس يقدم فيه البسطاء اعتذارًا عن وجودهم.. وغد يَشِى بأحلام محلقة بوعود أمل ومصالحة.. «من اختمار الحلم ييجى النهار/ يعود غريب الدار لاهل وسكن».

جاء «سيد حجاب» من ثنايا دفتر الحياة والموت ليلمس كبد الحقيقة.. يضع يده على مأساتنا الوجودية.. يفزعنا على مصيرنا.. مصير الزمن الملعون.. والدهر المأفون.. والأرض الجدباء.. والدنيا الضنينة.. والحلم المخنوق.. والأمل الضائع.. والحياة العبثية.. والموت المجهول فيقول: (يا أمان الغربة ليلك بيحاصرنا/ وفى صدمة المر طاوينا وعاصِرْنا/ بس طول ما الحب بيرفرف علينا/ الجدور حَنْمِدّها ونصنع مصيرنا).

ورغم أنه يتساءل في استنكار وغضب واستنفار للبشر، الذين يحبهم ويكتب لهم أشعاره وأغانيه، التي تنعى زمن الحلم والبراءة: (مين اللى قال مكتوب علينا الهوان/ لا الدنيا سيرك ولا الزمان بهلوان)، طالبًا منّا أن نلملم جروحنا ونسير خطوة للأمام ونحلم بعيون يقظة.. ولا ننام إلا بعد أن نقطف زهر أحلامنا: (فكل ضيقة وبعدها وسعة/ وهى دى الحقيقة بس منسية/ وكلنا ولاد تسعة وبنسعى/ ودى مش وسية/ النس سواسية)،

إلا أنه يعود ليمزج بعبقرية كلمات الأمل المحفزة بعدم الجدوى الملغزة.. الحياة بتحدياتها ومعاركها المستعرة، بأسى حقيقة الموت والفناء رغم محاولات الفرار من عبثيتها:

لو مُتّ على السرير ابقوا احرقوا الجسد/ ونطروا رمادى على البيوت/ وشوية لبيوت البلد/ وشوية ترموهم على تانيس/ وشوية حطوهم في إيد ولد/ ولد أكون بسته ولا أعرفوش/ لو أموت قتيل/ وأنا من فتحة الهويس بافوت/ وابقوا اعملوا من الدم حنة/ وحنِّوا بيها كفوف عريس/ وهلال على مدنة/ ونقرشوا بدمى/ على حيطان بيت نوبى تحت النيل- اسمى).

جاء «سيد حجاب» أيقونة البسطاء يبادلهم سخرية بسخرية، وهو يعرف تمام المعرفة أن السخرية والتنكيت والتلسين هي سلاح حزب الأغلبية المقهورة في مواجهة القهر.. متنفسهم الحقيقى في مواجهة واقعهم المرير. إنهم يسعون بالسخرية إلى التعبير عن الظلم الاجتماعى.. وعن إحباطاتهم وعذاباتهم.. تنتقل سخرياتهم إلى الأوضاع السياسية التي يعاصرونها.. فقال قبل ثورة يناير ما يعبر عن نبوءة بها معارضة لقصيدة «شوقى» (سلوا قلبى): (سلوا قلبى وقولوا لى جوابا/ لماذا حالنا أضحى هبابا/ لقد زاد الفساد وساد فينا/ فلم ينفع بوليس أو نيابة/ وشاع الجهل حتى أن بعضًا/ من العلماء لم يفتح كتابا/ وكنا خير خلق الله صرنا/ في ذيل القايمة وف غاية الخيابة/ قفلنا الباب أحبطنا الشبابا/ فأدمن أو تطرف أو تغابى/ أرى أحلامنا طارت سرابا/ أرى جناتنا أضحت خرابا/ وصرنا نعبدالدولار حتى/ تقول له إنت ماما وإنت بابا/ وملياراتنا هربت سويسرا/ ونشحت م الخواجات الديابة/ ونهدى مصر حبا بالأغانى/ فتملؤنا أغانينا اغترابا/ وسيما الهلس تشبعنا عذابا/ وتشبعنا جرائدنا اكتئابا/ زمان يطحن الناس الغلابة/ ويحيا اللص محترمًا مُهابا/ فكن لصًّا إذن أو عِشْ حمارًا/ وكُلْ مشًّا إذن أو كُلْ كبابا).
نقلا عن المصرى اليوم