كتب : محمد حسين يونس 

عندما أصبحت مهندسا (1962 ) رفضت الانضمام للاتحاد الاشتراكى ومنظمات الشباب ، كنت أريد أن أظل هاويا يعبر عن فهمه الشخصى لتطور الأمور ، ولاءه غير مملى عليه ، وحبه عفوى للثورة وقائدها 

كان هذا يستلزم أن أقرأ ، أفهم ، أتعلم ، وكان فى السوق عشرات الكتب والمجلات الموحية والمثقفة ، أختار منها ما أشاء 

حتى ذلك اليوم الذى كنت  أسافر فيه  بالقطر الحربي إلي( مقر عملي ) بسيناء و بدأت أناقش مجموعة من الزملاء من صغار الضباط حديثى التخرج ، فى موضوع كتبه لطفى الخولى فى مجلة الطليعة ، عندما إنقض على  أحدهم (ضابطا أكبر منا ) وخطف المجلة  من يدى وقال محذرا ( مش قلنا بلاش الشيوعيين دول ) .

 وكاد هذا المنقض أن يتسبب فى ضياع مستقبلى بعد أن إدعي لقائد كتيبتي أننى شيوعي احاول عمل تنظيم فى القوات المسلحة . 

الغريب أن الموضوع الذى كنت اتكلم عنه هو إنتخاب الرئيس جمال بنسبة 99.9 %  وحسن عرضة بواسطة لطفي الخولي  في المجلة .. متميزا عن محمد حسنين هيكل  بالأهرام ..

ولكن جو الرعب الذى عشناه ، جعل الجميع يتجسسون على الجميع ، وكم كان حجم الضحايا كبيرا .

لإعادة تثقيفي ، دٌفع بى الى إدارة التوجيه المعنوى بالقوات المسلحة  بالعباسية حيث عقدت دورة تأهيلية للضباط لمدة ثلاثة شهور . 

إلتقينا هناك  مع كبار مثقفى ومنظرى النظام الجديد ، أغلبهم من الشيوعين القدامي .. ( الذين يكتبون في مجلة الطليعة ) . 

كان الهدف أن نتعلم معنى الاشتراكية العربية .. وديموقراطية تحالف قوى الشعب العامل المصرية ، و ما جاء بالميثاق من أفكار مثل ( العمل حق العمل واجب العمل حياة ) .. ونكون دعاة للتغيير الثورى (الراديكالي ) داخل القوات المسلحة 

وهو ما حدث فى نهاية الدورة ، لم أعد متفرجا أو مراقبا أو هاويا .. لقد أصبحت  بعد تقدم ترتيب نجاحي في الدورة ..داعية محترفا ( كضابط توجيه معنوى علي مستوى الفرقة )..

أدرب وأربى وأعلم جنود القوات المسلحة وأغذيهم بالأفكار التى جعلتنا ( هم وأنا ) نتصور رغم قصور الامكانيات وضعف التسليح وفوضى التدريب أننا أقوى جيوش المنطقة ، لقد كان الخداع الأكبر الذى شاركت فيه كضابط محترف و ذقت بسببه الويل في اليمن و بعد ذلك في سيناء .  حيث الأفعال كانت  تغاير الأقوال  و الأهداف المروية تتعارض مع الأحداث اليومية .(( سجلته بعد ذلك في روايتين .. خطوات علي الأرض المحبوسة .. و علي شفا الموت علي شفا الجنون .. بلدى )) 

عندما هزمنا فى 67 إنطلقت خفافيش الظلام تنهش رأسى ، لقد غرر بنا وقدمت لنا اشتراكية مزيفة لا تزيد عن كونها رأسمالية دولة ستالينية أو هتلرية ، ( راجع صعود وسقوط الرايخ الثالث ) 

وزاولنا ديموقراطية كسيحة تقوم على استفتاءات مزورة ، ومجلس شعب نصفه يجهل القراءة والكتابة ، بحيث أصبح حوار النواب سطحيا لا هدف منه الا تأكيد إستمرار  أكل العيش وتأمين اللقمة الطرية حتي لو أدى ذلك إلي الرقص مع رجوع الزعيم عن قرار التنحى ..

لقد كان  الترقي في السلم الطبقي مع إمتلاك حصانة وهمية .. لا تحمي من غضبة الحكام .هدفا لكل من عمل بالسياسة .. لا أستثني منهم أحدا .

مجالس شعب الستينيات  كانت تتلقى التعليمات من الحكومة ولا يعلو اى صوت داخلها على توجيهات الرئيس .. لتصبح النموذج و المثال لكل البرلمانات التي عاصرتها بعد ذلك  في بلدنا حتي ما خلت منها  من العمال و الفلاحين 

فالطبقة الوسطي التي تم إتلافها  بعد أن  أصبحت الأكثر إنتهازية و تطلعا و رغبة في التسلط  مع عدم الخجل أو المداراة  في حشد المكاسب و الأرباح  ..

 أفرزت برلمانات كرتونية مضادة لمصالح الناس .. لعبه بيد الحكام .. عاجزة عجزا  تاريخيا لم يحزه نواب الشعب علي مستوى برلمانات العالم  سوى في رايخستاج هتلر . 

وشددنا الحزام بعد أن انهار اقتصادنا .. زراعة بدائية فاشلة .. صناعة غير قادرة علي  المنافسة فتفرض منتجاتها على الشعب بضعف أسعار مثيلاتها العالمية ولا تحصل عليها الا بالواسطة لندرتها ،

و خدمات كثيرة الأعطال بما في ذلك الكهرباء و التزود بالماء و الصرف الصحي و الطرق .. المحروم منها أغلب سكان الوادى .. و من حصل عليها  حصلها  بمشاكلها ..و سوء تقديمها 

 وتجارة خربة فى الداخل والخارج  تسيطر عليها عصابات البيروقراطية 

..ونظام بنوك محلى تحول الى خزينة إيداع و صرف ، 

وقروض من مؤسسات الدين العالمية بجميع العملات يصعب تسديدها ،

 وأموال تنفق على مغامرات الصراع الخارجي  بدلا من إصلاح الداخل ،

وقائد يتخبط ،( سواء هذا أو ذاك )  يصور له المحيطين أنه  منه السماء لا يخطئ أبدا فى قرار ، فأصبح مستبدا منفردا بالسلطة يتصرف كأبناء الآلهة من ملوك مصر القديمة 

تبقي نقطة يثيرها  الجدل حول الأحكام التي برأت من إعتدى علي سيدة المنيا و قام بتعريتها .

 فالبعض يتصور أن الفترة حتي نهاية السبعينيات  كان يكفيها  فخرا أنه لم ينكل بقبطى فيها  بسبب أنه قبطيا .

و لم تحدث فيها مجازر جماعية للقبط ...كالزاوية الحمراء ( 1981)والكشح .. و المنيا و غيرها من حوادث الإغتيال و العدوان التي نشهدها في زمن تال  يائس .

وأنا ألفت نظرهم الى قائمة الأقباط الذين نالوا نصيبهم من كرم عبد الناصر ورجاله فى السجن والتشريد ومحاربة الأرزاق بسبب كونهم أصحاب فكر أو انتماء سياسى 

(( لويس عوض ـ فخرى لبيب( له مذكرات محبطة  ) ـ صنع الله ابراهيم ـ ميخائيل رومان ـ فوزى حبشى ـ أبو سيف يوسف ـ ألفريد فرج ـ ميلاد حنا ـ  صليب إبراهيم( له مذكرات مؤلمة )  - ألفريد نسيم)) .. وغيرهم كثيرون  لم يكن حكم عبد الناصر بالنسبة لهم عهدا سعيدا .. و لم يمجدونه  لانه تبرع ببضع جنيها لبناء الكاتدرائية الجديدة بالعباسية أو لكونه  علي علاقة طيبة بالبابا كيرلس .

إن مشاكل الإنفصام الديني .. نشأت يوم قررت حكومة ما بعد الثورة عمل حصة للأقباط في كراسي الوزارة تتناسب مع عددهم .. و لا تشمل الوزارات السيادية (الدفاع و الداخلية و العدل و الخارجية و المالية )..ناقضين زمن كان رئيس وزراء مصر إسمه بطرس .

وهكذا 

 فالصديق لوقا جندى يتساءل ماذا يفعل الجانب الاضعف فى المعادلة ؟ 

و انا أرد .. بأن الامر بدا مع التهاون في حقوق المواطنه .. في بداية الستينيات .. 

ثم تطور لتعم قيم الغزو العربي  محل الحداثة التي تكفل للمواطنين حقوقهم بغض النظر عن ديانتهم .

 و يصبح القبط رعايا و حماية و موالي  وذميون ..عليهم دفع الجزية نتيجة لحمايتهم من غضب  و عدوان الجماعات السلفية .

بكلمات أخرى   بدأت نجوم المواطنة تأفل بطرد اليهود من مصر ..ليحل محلها(أى المواطنة ) علاقة مريضة مع المسيحي تعتمد علي نسب (المحاصة ) ومقدار تعداد كل فئة عند تولي مناصب الدولة الحاكمة . 

قمة التحول حدثت عندما صرح رئيس الجمهورية بحديث يهمش فيه من هم ليسوا بمسلمين ..و يؤكد  هذا بنص في الدستور . 

وهكذا لم يعد بمقدور أى منهم أن يكون رئيسا للوزراء كما كان بطرس باشا غالي (1908 ).. أو حتي وزيرا في وزارة سيادية ..

لقد عاد المواطن المسيحي ( علي أرض الواقع في القرى و الكفور )  إلي المربع صفر ليصبح (قبطيا ذميا ) يعاني من نتائج التفرقة بسبب الدين وتطبق علية الجماعات السلفية ..الشريعة و العهدة العمرية و يحل لديهم   دمه و ماله بحيث لا يعاقب بالاعدام من يغتاله

إذا ظلت الأمور مطروحة علي أساس ديني .. فستؤدى في النهاية إلي صراع و إنفصام و قد يصل إلي تمركز اتباع كل دين في مساحات محددة من الوطن بعيدا عن الأخرين كنموذج لبنان أو كما حدث في الهند و أدى لإنفصال باكستان و بنجلاديش . 

أما إذا أخذ الموضوع من وجهة نظر المواطنة الحديثة .. بغض النظر عن عقيدة الأعضاء الدينية  فالنضال الحزبي .. و السياسي القائم علي مصالح مشتركة و قيم إنسانية .. سيعود بنا إلي زمن كان فيه مكرم عبيد و غيرة من القبط  أعضاء مؤثرين  في  سياسة حزب الوفد ..

المواطنه المصرية عليها أن تجمع الناس في مواجهة التفتيت الديني .

والأحزاب المختلطة .. التي  تطالب بتعديل الدستور ..و لها خطط تنمية وطنية .. هو ما يجب علي الجانب ألأضعف عمله .. 

 

مش حنزغرد في الكنايس لما يهل علينا الريس  متصورين أن هذا سيغير موازين القوى  .. و إنما سنكون لنا حزبا يضم كل المصريين يطالب بالعدل  و التنمية و المساواة و حقوق المواطنة .و دستور غير منحاز (( نستكمل حديثنا غدا)) .