بقلم: فرانسوا باسيلي
مذبحة نجع حمادي في صعيد مصر التي أطلق فيها مسلحون النار بشكل عشوائي على جموع المصلين الأقباط ليلة عيد الميلاد الشرقي هي إعلان دموي لحالة الفشل السياسي والاجتماعي الذريع الذي تعيشه مصر بشكل متسارع التدهور على مدى حوالي ثلث قرن. فهذه المذبحة هي الأخيرة في سلسلة من الاعتداءات وأعمال العنف ضد الأقباط في مصر بدأت في مطلع عهد السادات بحادثة حرق كنيسة الخانكة بالقاهرة عام 1972، وقد عقد مجلس الشعب وقتها –وكان والدي عضوًا فيه عن دائرة شبرا بالقاهرة- لجنة لتقصى الحقائق برئاسة جمال العطيفي قدمت عددًا من التوصيات التى كان من شأنها –لو نفذت- أن تقضي على بوادر الفتنة الطائفية في مهدها لكن كان ذلك الوقت هو بداية استخدام الرئيس السادات للدين –وللاخوان المسلمين- لاغراضه السياسية تثبيتًا لمكانته الداخلية فأطلق الهوس الدينى من قمقمه وفتح له أبواب مصر، ولذلك وضعت توصيات مجلس الشعب في الأدراج، وكم طالب أبي في مجلس الشعب المرة تلو المرة بإلغاء الخط الهمايوني الذي يعرقل بناء الكنائس وكانوا يستمعون ويصفقون ولا يفعلون شيئًا.
ثم بدأ الفكر الديني المتشدد في الانتشار في الجوامع والشوارع والمكاتب والجامعات والنقابات والاتحادات، وبدأ الأقباط يسمعون اللعنات والدعاوى تنصب عليهم بأعلى النبرات في ميكروفونات الجوامع والزوايا التى انتشرت في كل شارع وحارة تنعتهم "بالكفار" وتصب عليهم اقذع الشتائم، وكأنهم ليسو شركاء في هذا الوطن الذي راح يلفظهم ويطردهم ويضطهدهم بشكل مضطرد منذ السبعينيات وإلى اليوم، وبدلاً من ان يقوم السادات بدوره كرئيس مصري لكل المصريين أطلق على نفسه لقب "الرئيس المؤمن" -وكأن هذه صفة ينفرد بها عمن جاءوا قبله-، وأغلق أذنيه وعينيه عن مطالب وصرخات الأقباط، بل ألقى في السجون بمن رفع صوته منهم ومن بينهم والدي القمص بولس باسيلي الذي ألقوا القبض عليه مع ألف وخمسمائة من رموز مصر السياسية والثقافية والدينية في أحداث سبتمبر 1981 الشهيرة لينتهى الأمر باغتيال السادات على ايدى "جماعاته" الدينية التي رعاها.
كانت لدى الرئيس الجديد حسنى مبارك فرصة أن يصحح المسار المصري وينأى به عن مستنقع الفتنة الطائفية ويقود مصر نحو مستقبل يليق بهذا البلد الذي وضع لبنة الحضارة الإنسانية قبل سبعة آلاف عام، ولكنه أهدر الفرصة المرة تلو المرة وأضاع تدريجيًا كل ماحققه المجتمع المصري من نهضة سابقة منذ عهد محمد علي وحتى وفاة عبد الناصر في سبتمبر 1970، وتربع على حالة من الخمول والركود السياسي والاجتماعى والثقافي والاقتصادى وصلت اليوم إلى فشل تام وانهيار كامل لقطاعات أساسية مثل التعليم والصحة والمواصلات والتموين والصناعة والإسكان والإعلام والفنون، تراجع كل شيء وركد في مستنقع من الموت البطئ الذي تستشري فيه سرطانات الفساد والبلطجة والفوضى والنفاق والرشوة والمحسوبية بالإضافة إلى المرض الأعلى وهي حالة الصراع الديني التى انتابت الشارع المصري، الذي دخل أفراده في غيبوبة تذكرني دائمًا بطقس "الزار" المصري الذي تتطوح فيه جموع الرجال والنساء في تشنجات جسدية ورقصات محمومة على دقات الطبول مع إنشادات شعبية جنسية ودينية معًا، يمتزج فيها الشبق بالحرمان بالجنون بالصراخ لساعات متواصلة تخرج من أجساد وعقول المحتفلين، كل ما احتبس بها من رغبات محبطة وغرائز مكبوتة وتأوهات وأوجاع انسانية واجتماعية مأزومة كان "الزار" هذا يعقد بشل محدود في بعض القرى والأحياء الشعبية في مصر التي تعاني من الفقر والجهل والمرض، ولكن المجتمع المصري بأسره اليوم قد دخل حالة الزار هذه وأصبح بأكمله مغموسًا وممسوسًا إلى حد الهوس والصرع غارقًا في ترهات وخرافات تشغل كل دقيقة من يومه وكل شاردة وواردة من فكره، وانهال شيوخ التكفير على رؤوس الناس بفتاوى أضحكت العالم كله على جهل هذه الأمة وجعلنا لا نصدق ما نسمع ونرى من مهازل ومساخر لم يعد يرتكبها غيرنا في العالم.
كيف وصلت مصر إلى مستنقع نجع حمادي؟
لقد اصبحت نجع حمادى في الأيام الماضية تستدعى للأذهان كل ما هو محزن ومؤسف من جهل طائفي وتطرف دينى وتدليس سياسى وبلطجة حزبية وعنف دموي وانفصام في الشخصية المصرية بين قبطى ومسلم. بينما أتذكر بحزن أن نجع حمادي هذه كانت في فترة شبابي في مصر الناصرية ترتبط في أذهاننا المتطلعة بمصانع جديدة تُقام كل يوم منها مصانع للسكر واخرى للألمونيوم.. نجع حمادي كانت تعني مشروع مصر النامية صناعيًا المتحررة سياسيًا وثقافيًا، واليوم نجع حمادي هى الظلام الطائفي والمذابح الجاهلية والفساد حتى في واجهاته الدينية.
إن الصعيد المصري هذا الذي تركوه يقبع في ثقافة القرون الوسطى واهملوه تمامًا بلا خدمات ولامشروعات في الثلاثين عامًا الماضية هو نفسه الصعيد المصري الذي شهد فجر الحضارة البشرية والذي أسس أول دولة في التاريخ وقدم إنجازات شاهقه في كافة جوانب الحضارة من علوم وطب وهندسة وكيمياء وفلك وزراعة وفنون وتحرير للمرأة.. وكل ذلك قبل أكثر من خمسة آلاف سنة لقد شهد ذلك الصعيد المصري أول ملكة في التاريخ هي حتشبسوت التي حكمت مصر عشرين عامًا أرست فيها قواعد نهضة عامرة وشيدت معبد الدير البحري الباهر المحفور في الصخر والذي يتوافد السياح من أقطار الأرض لمشاهدة أعجوبته، وهو نفس المعبد الذى شهد عام 1997 مذبحة السياح التي قامت بها جماعة إرهابية ظلامية تدعى انتسابها للإسلام وقامت بذبح عدد كبير من السياح الأبرياء رجال ونساء وشيوخ، فما أوسع الهوة بين الروح الحضارية المصرية القديمة وبين بؤس الواقع المصري في مطلع القرن الحادي والعشرين!
ذلك الريف المصري البسيط هو الذي ترعرع فيه في مطلع القرن التاسع عشر المصري متحرر الروح والعقل الشيخ رفاعة رافع الطهطاوي الذي أرسله محمد علي الحاكم القوي المتفتح الذي قاد نهضة مصر الحديثة إلى فرنسا، فنهل الشيخ الطهطاوي من معارفها ولم يلعنها باعتبارها كافرة مارقة بل تعلم لغتها وراح يترجم أمهات كتبها التنويرية ومنها كتاب مونتسيكو عن الحضارة الرومانية وكتاب عن بطرس الأكبر باعث النهضة الروسية وعاد الى مصر عام 1831 لينشئ أول مدرسة للترجمة التي أصبحت دار الألسن ويقوم بمحاربة الآراء الفاسدة ويبذر بذور النهضة العلمية والتقدم.
وكرر الشيخ محمد عبده بعد ذلك بنصف قرن مافعله الطهطاوي، فقد سافر إلى باريس عام 1880 واشترك مع جمال الدين الأفغاني في إصدار "العروة الوثقى" ونهل من الثقافة العالمية وروح التحرر العقلي، فعاد عام 1889 إلى مصر بعد أن توسط سعد زغلول لدى الخديوي توفيق للعفو عنه وعين عضوًا بمجلس شورى القوانين ثم مفتيًا عامًا لمصر حتى وفاته عام 1905، وقام الشيخ محمد عبده بحركة إصلاح وتجديد كبيرة لفهم الدين وأصدر مئات الفتاوى في الشئون الاقتصادية والاجتماعية وقدم أفكارًا متحررة وعصرية تصالح المسلم مع عصره ودينه معًا، والغريب المحزن هنا أن كافة القضايا الدينية التي تنشغل بها مصر اليوم في ردتها الحضارية الحالية مثل قضايا المرأة والحجاب والتحرر والمواءمة بين الدين والعلم وغيرها، كان محمد عبده قد قدم لها حلولا وفتاوى في نهاية القرن التاسع عشر وها هي مصر تعود القهقرى لأكثر من مائة عام فتعيد طرح نفس القضايا الدينية التي كان من المفروغ أننا تخطيناها منذ قرن مضى، فمن المسئول عن هذا الضياع الوجودي الهائل لوطن بأكمله يعود إلى الوراء مائة عام بينما تندفع دول العالم للأمام بلا هوادة؟
كيف وصلت مصر التي عرفت شيوخ التنوير منذ عهد محمد علي والتي ساعدها الفهم العصرى المتحرر للإسلام على النهل من علوم الغرب ومعارفه بلا حساسية ولا عقد؟ كيف وصلت إلى إنتاج شيوخ التكفير الذين لا هم لهم اليوم سوى صب اللعنات على الآخرين وإعادة إنتاج قضايا الجاهلية وتقميط المرأة المصرية تحت خيمة النقاب الذي لم تعرفه في تاريخها المضئ على مدى سبعين قرنًا؟ إن مصر على طول تاريخها هي بلد تخضع للحكومة المركزية ومن يتربع عليها من فرعون أو ملك أو رئيس، ولا يحدث شئ في المجتمع المصري إلا وكان للفرعون أو الملك أو الرئيس كلمة أو فعل فيه، وبالتالي فمسئولية ما يحدث لمصر تقع كاملة على كاهل حكامها ومن يختارهم لإدارة شئون البلاد.
وقد رأينا كيف أسس الرئيس السادات حزب مصر فهرع إليه كل من يريد الانضمام تحت جناح الرئيس والعمل على خدمته ومنافقته واستجداء عطاياه من مراكز وسلطة وجاه، وأصبح ذلك الحزب بعد ذلك هو "الحزب الوطنى" اليوم، فما هي شرعية حزب يؤسسه رئيس البلاد وهو في السلطة؟ وهل هناك عاقل يتصور أن هذا نظام ديمقراطي؟ وكيف يمنح الحزب الوطني الحاكم بعد ذلك لنفسه حق الموافقة أو الرفض لتأسيس أية أحزاب أخرى؟ هل تعرف بلدًا آخر في العالم يملك فيه أعضاء حزب حق الموافقة على تكوين أحزاب معارضة لهم؟
هل هذه هي أزهى عصور الديمقراطية التي يتبجح بها علينا المنافقون المنتفعون بالمراكز والمنح التي يوزعها الحزب الحاكم؟
لقد تردت الأحوال في مصر اليوم إلى درك لم يعرفه المصريون منذ عهد المماليك، والمسئول عن ذلك هو الرئيس والنظام المصري الحالي وحزبه الوطني الحاكم، فهم يحكمون منذ ثلاثين عامًا أصبحت فيها مصر في قاع الدول على أساس معظم المقاييس المحايدة التي تصدر عامًا بعد عام، ولا يحتاج المصريون إلى مقاييس عالمية لمعرفة ذلك، فنظرة واحدة إلى الشارع المصري بكل فوضاه وتقواه الشكلية المصطنعة المهووسة بكل تناقضاته وعشوائياته وتسيبه (نظرة واحدة إلى أي مدرسة إعدادية في أي حى فقير أو قرية منسية، نظرة واحدة إلى طرقات أي مستشفى عام حيث ينتظر الفقراء المطحونون العلاج فيأتي قبله الموت، نظرة واحدة إلى المعارك الدموية في طوابير الخبز أو داخل حافلات الموت الطائرة أو في كهوف مساكن العشوائيات حيث يقيم المصريون بلا صرف صحى ولا مياه جارية، نظرة إلى نظام التعليم الحكومي الفاشل والدروس الخصوصية الباهظة التي تلهب ظهور ما تبقى حيًا من الطبقة الوسطى المنقرضة، نظرة واحدة إلى السياسات التي فشلت حتى في ادارة "معركة" كروية مع دولة عربية فتحولت إلي مهزلة دولية) سياسات أضاعت هيبة مصر ومكانتها الدولية وأصبحت مصر التي كانت زعيمة لدول عدم الانحياز، مصر الثمانين مليونًا تضع رأسها برأس حزب مثل حزب الله أو حركة مثل حركة حماس لا يحتكم أي منها على أكثر من ألف أو ألفين مقاتل ولم يكن لهؤلاء الصعود على مسرح الأحداث لولا الغياب المدوي الفاضح لمصر عن هذا المسرح منذ حرب العبور.
على الأقباط بعد نجع حمادي سحب تأييدهم للحزب الوطني الحاكم وإعلان سخطهم على سياساته الفاشلة التي أودت بمصر إلى السقوط إلى مستنقع العصبية الطائفية والكراهية الدينية، وليس صدفة أن المتهم بهذه المذبحة كان معاونًا لصيقًا لمرشح الحزب الوطني في نجع حمادي.
على الأقباط وقياداتهم السياسية (الغائبة المغيبة) والدينية الفاعلة إعلان انضمامهم للحركة الوطنية المصرية المعارضة لهذه النظام الذي عاد بمصر إلى عهد المماليك وتربع لثلاثين عامًا على مسيرة الانحدار الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والثقافي الذي أوصل مصر إلى حالة تصعب على الكفار –أي النصارى في مفهوم شيوخ التكفير الذين أضاعوا الإرث الباهر لشيوخ التنوير قبل قرن من الزمان-.
على الأقباط الانضمام إلى الحركة الوطنية المعارضة للتوريث والمعارضة للاستمرار في هذا المسار البائس الخطير والتحرك بحمية ووطنية مع إخوتهم من المسلمين المصريين الرافضين للتطرف والتشدد الديني المظلم المتطلعين إلى بناء وطن عصري حديث لا يخلط السياسة بالدين ويخرج من حفلة الزار التي سقط فيها المجتمع المصري.
وقد يكون للأقباط في حركة تأييد الدكتور البرادعي مجالاً للعمل الوطني المجدي يكون عاملاً من عوامل إنقاذ مصر وانتشالها من براثن الجهل والفساد والفشل.
ولك يا مصر السلامة.
كاتب من مصر يقيم في نيويورك |
|
شارك بآرائك وتعليقاتك ومناقشاتك في جروبنا على الفيس بوك
أنقر هنا
|
أعرف مزيد من الأخبار فور حدوثها واشترك معانا في تويتر
أنقر هنا
|