CET 00:00:00 - 22/01/2010

مساحة رأي

بقلم: د. عبدالخالق حسين
التاريخ العربي- الإسلامي هو دموي في معظمه باستثناء بعض الصفحات المشرقة منه مثل تراث المعتزلة وأخوان الصفا وبعض الفلاسفة، ومنجزات الخليفة العباسي عبدالله المأمون الذي كان معتزلي الهوى، ودوره المشرف في تأسيس بيت الحكمة وتشجيع ترجمة علوم الأولين من الأمم الأخرى إلى اللغة العربية...الخ. وحتى هذه الصفحات المشرقة تم حرق معظمها وخاصة مؤلفات المعتزلة التي لم يصلنا منها إلا تلك الشذرات القليلة التي اقتبسها أعداؤهم ونشروها في مؤلفاتهم للرد عليهم والطعن بهم. وليس أشطر من البعثيين ومناصريهم من الكتاب العرب في توظيف هذا التراث في خدمة أغراضهم الشريرة في وقتنا الحاضر. فكلما يحتاجونه هو التلاعب بالألفاظ ولوي عنق الحقيقة واستخدام تعابير وأسماء لخدمة الشر وفق مقولة الإمام علي: (قول حق يراد به باطل.)
فالكل يتذكر الأسماء التي أطلقها كتاب البعث أيام الحرب العراقية-الإيرانية، مثل: القادسية، والقعقاع، والمثنى بن حارثة الشيباني، مقابل إضفاء أسماء تسقيطية بذيئة على العدو مثل: "الفرس المجوس" و"عبدة النار" و"العدو الفارسي". أما بعد إسقاط حكم البعث الجائر، فظهرت لنا مصطلحات مثل: الشيعة الصفوية، وأحفاد العلقمي، والروافض وعملاء إيران، والشراكوة والشعوبية... الخ.
والجدير بالذكر، أن الحكومات العربية ومعها إعلامها، رغم أنها كانت تكره صدام حسين وحكمه، إلا إنها ما كانت تريد تغييراً جذرياً في عراق ما بعد صدام، بل كل ما كانوا يريدونه هو التخلص من صدام وإبقاء الحكم كما كان وذلك عن طريق إنقلاب عسكري من داخل النخبة الحاكمة، كالإنقلابات السابقة، أي سياسة ترقيعية، من أجل إبقاء العراق ضعيفاً ، تحكمه ذات الشريحة التي استحوذت على حكم البلاد والعباد في الماضي وقادت إلى الخراب الشامل. ولكن عندما خرجت الأمور من أيديهم، وأصرت أمريكا على إسقاط الدكتاتورية وبناء دولة عراقية ديمقراطية عصرية، يمتلكها الشعب وليست دولة شخص واحد مثل "دولة صدام"، عندها عملت هذه الحكومات العربية ومعها إيران، على إفشال العملية الديمقراطية، ولكل منها غايتها الخاصة بها.
وكما بينا مراراً، أن الأزمات العراقية هي وليدة الجغرافيا والتاريخ، ولدول الجوار دور فعال فيها بسبب امتدادها الأثني والديني والطائفي في مكونات الشعب العراقي، وبالتالي تعددية الأحزاب السياسية وفق الانتماءات الدينية والطائفية والقومية. ونتيجة للمنافسة بين هذه الأحزاب على السلطة والنفوذ، انفسح المجال أمام دول الجوار في التدخل في الشأن العراقي، واتخاذ العراق ساحة للحروب فيما بينها بالوكالة وعلى الأرض العراقية وبدماء العراقيين. فالأحزاب الشيعية الموالية لإيران تغض الطرف عن تدخل إيران وتسكت عن جرائمها في العراق، وتركز فقط على الدور السوري والسعودي في في دعم الإرهاب. وبالمقابل، تغض الأحزاب العربية السنية الطرف عن دور السعودية وسوريا في التدخل الفض بالشأن العراقي، وتركز فقط على الدور الإيراني، بل وتوجه التهمة إلى إيران في جميع الأعمال الإرهابية التي ترتكبها فلول البعث والقاعدة المدعومة من السعودية وسوريا وغيرهما من الحكومات العربية الخليجية. وعندما توجه هذه الجهات تهمة التخريب إلى إيران فقط، فإنها تقصد بذلك الأحزاب الشيعية المتنفذة في السلطة وتبرئ البعث والقاعدة من أية جريمة إرهابية، بل وتدافع عنهما بشكل مباشر أو غير مباشر.

كما وانعكس تدخل دول الجوار في الشأن العراقي في وسائل الإعلام لهذه الدول، وبالأخص الحرب الإعلامية بين إيران والسعودية التي أشتد أوارها في الآونة الأخيرة مع اقتراب موعد الانتخابات البرلمانية في 7/3/2010 ، وكل دولة تريد الفوز للكتلة التي تمثل مصالحها في العراق.
وهنا برزت السعودية ومساعيها المحمومة في إفشال العملية السياسية لإعادة التاريخ إلى الوراء. والمعروف أن السعودية الوهابية تكن العداء المفرط لشيعة العالم وبالأخص لشيعة العراق، فقتلهم وفق المذهب الوهابي واجب ديني يضمن دخول الجنة للقاتل. وقد تطرقنا في مقالات سابقة إلى تاريخ العلاقات السعودية- العراقية السيئة، سواء في العهد الملكي أو الجمهوري. إذ كما صرح الملك السعودي الراحل فيصل بن عبدالعزيز مرة بعد سؤاله لتاجر عراقي في عهد الزعيم عبدالكريم قاسم، فيما إذا كان الأخير سنياً أم شيعياً، ولما أخبره بأن والد الزعيم سني، هنا أعرب الملك عن إرتياحه قائلاً: (ريحتني ألله يريحك!!)، مؤكداً أنهم (السعوديون) لم يسمحوا لشيعي أن يكون رئيساً لحكومة في العراق. وهذا ما نلمسه اليوم في الموقف السعودي المتشنج من السيد نوري المالكي ومن الأحزاب الشيعية.

وفي نفس السياق، قرأنا قبل أيام تصريحاً للسيد مسعود بارزاني، رئيس إقليم كردستان العراق، أن (السعودية وعدت مسعود بارزاني بثلاثة مليارات دولار إذا انسحب من حكومة المالكي) بغية إسقاطها. وقد اعتبر السيد بارزاني هذا العرض إهانة له، فترك اللقاء وخرج غاضباً. (الرابط في ذيل المقال). كما ونلاحظ الحملة المسعورة ضد حكومة المالكي وانحياز الإعلام السعودي السافر لكتلة (الوطنية العراقية) التي تضم البعثيين السابقيين من أمثال ظافر العاني، نجم الفضائيات العربية، الذي يشتم العراق الجديد ويدافع بحرارة عن البعث، ووجه إهانات مستمرة إلى ضحايا المقابر الجماعية، وكذلك صالح المطلك، البعثي السابق والذي صرح أخيراً بأنه يدخل الانتخابات باسم البعث، وأن أفضل حزب موجود في العراق هو حزب البعث...الخ.
ولم يستطع كتاب الصحيفة السعودية (الشرق الأوسط) إخفاء تحيزهم في هذا الصراع بين الكتل العراقية المتنافسة. فقد ذكرنا في مقال سابق لنا عن موقف الكاتبين: عبدالرحمن الراشد و طارق الحميد، وهجومهما السافر على (هيئة المساءلة والعدالة) في قرارها القاضي بمنع البعثيين السابقين أو من يروج للبعث، من المشاركة في الانتخابات، وقالا أن منع البعث هو منع السنة العرب.(كذا)
ويبدو أن هذه الحملة منسقة لجوقة كبيرة من الصحفيين السعوديين وبقيادة ضابط إيقاع ماهر. إذ خرج علينا يوم الثلاثاء، 19/1/2010، السيد مشاري الذايدي ليزيد النفخ في الطنبور الطائفي، وعلى طريقة البعثيين، في توظيف التراث العربي- الإسلامي لأغراض شريرة، فأعاد على الأذهان قصة "ثورة المختار في أخذ الثأر" في مقال له بعنوان: (ثورة «المختار» الجديدة في العراق)، في إشارة إلى ما تقوم به (هيئة المساءلة والعدالة) أنه انتقام من البعثيين كما انتقم المختار بن أبي عبيدة الثقفي في ثورة قادها عام 66 للهجرة، لينتقم من قتلة الحسين وأخوته وصحبه في واقعة الطف في كربلاء. والكاتب لم يتوانا في القول أن النستهدفين في المنع هم السنة العرب!! 

ولا أفشي سراً إذا قلت أني كنت من المعجبين بكتابات السيد مشاري الذايدي، فهو كزميله الراشد، من الكتاب الليبراليين والعقلانيين الرصينين، الذين أتابع كتاباتهم في صحيفة الشرق الأوسط، ولكن ومع الأسف الشديد، يبدو أنهما استجابا لضغوط أولياء النعمة في المشاركة في العزف الطائفي النشاز، مع أولئك الذين لا يرون في العراق أي شيئ إلى بلونه السني والشيعي، وأي إجراء يصدر من الحكومة أو إحدى مؤسساتها ضد البعثيين فهو إجراء ضد السنة العرب.
لقد ذهب السيد مشاري الذايدي في سعيه المحموم لتشويه سمعة هذا الثائر (المختار)، وبالتالي تشبيهه بالدكتور أحمد الجلبي، وتشبيه أتباعه بالإئتلافات التي تضم الأحزاب الشيعية. فأي قرار تأخذه هذه الهيئة هو إرضاء لإيران، وكأن العراق صار مستعمرة إيرانية، ولا رأي للعراقيين المشاركين في الحكم إلا تنفيذ الأوامر التي تمليها عليهم إيران، وهذا بالضبط ما يروج له البعثيون وأنصارهم ومن وقع في فخ  أكاذيبهم.
لا شك أن غرض الكاتب هو إثارة النعرة الطائفية ودق الأسفين بين الأحزاب العراقية. لقد أخطأ السيد الذايدي من حيث يدري أو لا يدري في توجيه سهامه الطائفية المسمومة، فبتشبيه قرارات هيئة المساءلة والعدالة بثورة المختار ضد قتلة الحسين بن علي وآل بيته، وتشبيهه البعثيين بقتلة الحسين، فقد قدم خدمة جليلة لأعداء البعث في العراق ونحن نؤيده على ذلك إذ أن البعثيين فعلاً هم يسلكون سلوك قتلة الحسين، ودون أن يعرف أن المختار وثورته يتمتعان بمكانة عالية جداً في الميثولوجيا الشيعية عند الشيعة الذين يشكلون نحو 60% من الشعب العراقي.
أما  إذا كان يريد أن يشبه السنة العرب بقتلة الحسين، فقد كشف الكاتب عن جهله للتاريخ وبالأخص بتاريخ السنة والشيعة في العراق. فالمعروف أن جميع أهل السنة في العراق بدون استثناء كانوا مع علي بن أبي طالب في حربه مع معاوية. وأن الإمام أبي حنيفة قد ساند ثورة أبناء علي بالمال والفتوى، وسجن مع الإمام موسيى الكاظم ولنفس الغرض. ولم تظهر مصطلحات (سنة وشيعة) بالمعنى الطائفي الذي نفهمه اليوم إلا في عهد الخليفة العباسي المتوكل، المعروف بمظالمه واستهتاره وعدائه للشيعة والمعتزلة، والذي اجهض النهضة التنويرية العقلانية الإسلامية التي بدأها المعتزلة، ومنذ ذلك العهد دشن المتوكل مرحلة دخول المسلمين في ظلام دامس من اللاعقلانية لم يخرجوا منها حتى اليوم. ولذلك نقول، أن السيد الذايدي قدم خدمة جليلة للسيد أحمد الجلبي وهيئة المساءلة والعدالة، وأساء إلى شعبية كتلة (الوطنية العراقية) بتشبيهها بقتلة الحسين وقصة الثأر وغيرها من الإدعاءات الباطلة.

إن الحملة الموجهة ضد العملية السياسية في العراق واتهام كل ما يحصل في العراق بالطائفية تهمة باطلة ستفقد القائمين بها سمعتهم ومصداقيتهم في نهاية المطاف، فحبل الكذب قصير. وها قد أكد رئيس الوزراء العراقي السيد نوري المالكي أن منع نحو 500 شخصية من المشاركة في الانتخابات النيابية القادمة لا يقصد به استهداف العرب السنة، وإن هناك الكثير من السنة في هذه اللائحة، ولكنها تضم ايضا شخصيات شيعية ربما كان عددها أكبر من السنة. ولفت المالكي إلى إن 70 بالمئة من اعضاء حزب البعث المنحل كانوا من الشيعة.
وبالمناسبة، أود تقديم إقتراح إلى ذوي الشأن حول منع البعثيين من المشاركة في العملية السياسية. لا شك أن الغرض من منع البعثيين هو حماية العملية السياسة والشعب العراقي من عودتهم إلى الحكم ثالثة، وفي هذه المرة تحت عباءة الديمقراطية كما نجح هتلر. أقترح أن لا يشمل المنع كل من كان له انتماء إلى البعث سابقاً، بل ليشمل فقط من تلطخت أيديهم بالجرائم ضد الشعب، وأولئك الذين يروجون لحزب البعث وفكره الفاشي الآن، من أمثال ظافر العاني وصالح المطلك. فالترويج للبعث مخالف للدستور. لذا، وبغض النظر عن موقع الشخص في حزب البعث سابقاً، فإذا أعلن تخليه عن الحزب وأدان جرائم البعث واعتذر للشعب ورضي في المشاركة النزيهة في العملية السياسية وحماية الديمقراطية، عندها يجب الترحيب به ومهما كانت درجته الحزبية في الماضي. إذ سمعنا ورود أسماء لامعة مثل اسم وزير الدفاع، السيد عبدالقادر جاسم العبيدي، وكذلك اسم السيد علي الدباغ، الناطق الرسمي للحكومة. هذا ممكن، وممكن أيضاً تشابه في الأسماء. وفي جميع الأحوال، يجب قبول هؤلاء لكونهم الآن مشاركين فعليين في العملية السياسية وبنوايا صادقة، ويجب عدم اتباع السياسة المكارثية أو ملاحقة السحرة witch-hunt كما كان في عهد محاكم التفتيش في أوربا في القرون الوسطى.
فمعظم القادة المسؤولين في روسيا وغيرها من الدول الاشتراكية سابقاً، والذين يشاركون في حكوماتهم الديمقراطية اليوم كانوا من قادة الأحزاب الشيوعية، ولكنهم أخلصوا للديمقراطية وشاركوا في العملية السياسية باخلاص. وذلك يجب الاستفادة من تجارب الآخرين.
ومن جانب آخر، أود التأكيد أن قرارات هيئة المساءلة والعدالة ليست مخالفة للقانون كما يتصور البعض من الحريصين على حكم القانون، إذ جاءت هذه القرارات وفق الدستور الذي يمنع أي شيخص يروج للبعث.

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع
شارك بآرائك وتعليقاتك ومناقشاتك في جروبنا على الفيس بوك أنقر هنا
أعرف مزيد من الأخبار فور حدوثها واشترك معانا في تويتر أنقر هنا
  قيم الموضوع:          
 

تقييم الموضوع: الأصوات المشاركة فى التقييم: ٠ صوت عدد التعليقات: ٠ تعليق