CET 00:00:00 - 09/02/2010

مساحة رأي

بقلم: نبيل المقدس
لو قلت أنها قصة حقيقية .... هتسخروا مني , و لو قلت أنها خيالية .... هتتمنوا أن تكون حقيقية , عشان كُلنا متعطشين لهذا الحب الحقيقي . عموما سأترك لكل واحد مساحة  يُـفكر  ثم يختار إن كانت حقيقية أو خيالية  علي حسب إحتياجاتهِ وإحساساتهِ . ومش هجيب سيرة أنها خيالية ولا حقيقية .... لكن أسمحوا لي أيضا بمساحة  في آخر القصة لكي أعبر عن مشاعري الخاصة ...!!!

تأخرت عن ميعاد الذهاب إلي الكنيسة والتي فيها سوف يتم صلاة الجِنّاز علي زميلي وصديقي والذي توفي بعد مرض لم يأخذ منه إلاّ شهرين  , وهذا كان منذ خمسة عشر سنة . أخذت بعضي وذهبت مباشرة إلي مدافن الأسرة , فقد كنت أعرفها عند وفاة أبيه منذ سنتين من وفاة هذا الصديق . وجدتهم توا داخلين المدافن , ورأيتُ زوجته وإبنته في ثياب الحداد وفي حالة إنهيار , تقدمتُ نحوهما لأعتذر لعدم حضوري الصلاة في الكنيسة . وعندما رأيتُ  دموع زوجته تذكرتُ قصة حبهما وأول لقاء لهما ... فقد كان صديقي هذا في وقتها من الشباب الهادي , والذي كان يفتقد موهبة الإندماج في المجتمعات وخصوصا والتي تحوي شابات أو أي جنس من [الحريم]. وفي إحدي المرات جاءتنا دعوة لحضور عيد الميلاد الثاني لإبن صديق لنا في العمل ... وأخذته بالقوة معي , وهناك كان الإحتفال مبهج ومملوء بأقارب وأصدقاء صديقنا الذي دعانا . وأثناء الإحتفال وزفة الطفل ورش الرز والملح علي المدعويين  كتقليد  لإبطال الحسد, وجدتُ عيون صديقي مُركزة دائماً علي إحدي جميلات الحفل , توجهت إليه وقلتُ لهُ ... حلوة إبتسام ! مش كده برده ؟ ... إنتفض من علي الكرسي وقال : بصراحة أنا مُعجب بيها ... بس أنا لاقيها واقفة مع شباب كثير .... أروح فيهم فين؟ ... فيهم إللي بيلعب كمال أجسام ... وإللي مركزه ماشاءالله ... وإللي ظابط شرطة بنسر .... واللي طويل وزي القمر ... قلتُ لهُ : إعمل أي حاجة بحيث تلفت نظرَها ليك, حتي لو رسيت ترقص لها رقصة العجوزة ...  ثم ضحكتُ وتركتُهُ بمفردِه لكي أناغش بعض الموجودين ... وبعد وقت قليل يُفاجيء كل الحاضرين بصوت صديقي هذا يطلب وبصوت عالي ملحوظ ... ( أنا أحبها  بملعقة خَلْ )... الكُل وقف مبهور وخصوصاً عندما عرفنا أن أحد الشغالين سألهُ عن كمية السكر في القهوة التي طلبها .... ولمحتُ إبتسام تنظر إليه بدهشة وكأنها لأول مرة تري شاباً في حياتها ...

وجدتُها تُسرع إليه وتُقدِم نفسها لهُ , ولمحتُ نظراتَه زاغتْ تبحث عني لكي أعاونه في هذا المأذق الذي أوقع نفسه فيه . طبعا لم أذهب إليه , لكنني تعمدتُ أن أقف مع زميل آخر بجواره وكأنني لم أسمع شيئا مما يدور بينه وبين إبتسام ... قالت لهُ إبتسام : هو في حد يشرب القهوة بملعقة خُلْ ؟؟؟ قال لها : نعم .. أنا إتعودتُ أن أشرب الشاي بخَل لأنني تركت بلدتنا ونحن أصلا صُنـّاع وتجار خَل , فكنت أشتم  رائحة الخَل في بيتنا دائما , فإشتقتُ إلي هذه الرائحة بعد ما تركتُ بلدتي , فمنذ ذلك الحين وإخلاصاً لعائلتي ومعيشتي معهم أتلذذ أن أشرب كل صباح فنجان القهوة وبه نصف ملعقة خَل . لأنني لا أحب أن أنسي الوسط الذي عشت فيه , ولا أحبذ أن أبتعد عنهم . نَظرتْ إليهِ إبتسام في إعجاب وإندهاش عظيم , ثم لمحتني بجوارهما وقالت لي : حقا صديقك هذا نادر الوجود , فهو أمين ومُخلص ... تتصور إستغني عن السكر في القهوة وبيستخدم الخَل عشان ماينساش عائلته .؟؟!! . طبعا قلت لنفسي , مع إلقاء نظرة إليه هو فهمها : ( يا أبن الإيه عرفت تلعبها صح !!! ) . ثم بعد لحظات, وجدتُ باقي المجموعات تترك أماكنها وتتجمع حول صديقي هذا لكي يشاهدونهُ وهو يشرب القهوة بنص ملعقة خَلْ , وأخذ صاحبنا يشربُ منها وهو طبعا كان علي وشك الترجيع , لكن إعجابه بإبتسام تحمل شُرب القهوة بالخَلْ وكان يرسم  إبتسامة كبيرة علي شفتيه مع إنبهار الحاضرين بينما أنا الوحيد الذي كنت متألم من أجلهِ  ... وفاز صاحبي  بها .
     مافيش شهرين لقيت صاحبي يقول لي أنا هسيبك بقي لأنني أخذت شقة تمليك في منطقة رابعة بمدينة نصر. كانت منطقة رابعة في هذا الوقت عبارة عن صحراء , وفهمتُ منه أنه سوف يتقدم لإبتسام ... وأخذ عليّ عهدا أن لا أذكر  موضوع الخَل أمامها , مع أنني كنت قد نسيتُ الموضوع تماماً , و أوهِمَها أنه مايزال يشرب القهوة بنص ملعقة خَلْ ... قلتُ لهُ لأجل خاطرك سوف أقولُ لها أيضاً أنك تشرب الخل في [كانز] بدلا من المياه الغازية ... قال لي ... أنا قلت لها قهوة الصباح فقط .. 

تزوج صديقي إبتسام وسافرا إلي دولة عربية , وأنجبا إبنتهما ناردين , وأتي إلي القاهرة وأخذ يجهز نفسه للهجرة إلي كندا لأن الشركة التي كان يعمل لديها في البلد العربي في أشد الحاجة إلي مجهوداته هناك. وقبل ما يسافر أصابه المرض اللعين , وألغي فكرة الهجرة , وبقي في القاهرة هو وزوجته وإبنته يصارعون معه المرض . وفي إحدي الأيام قبل وفاته بأسبوع أعطاني ورقة في مظروف مكتوب عليه (خاص إلي زوجتي الحبيبة إبتسام ..) وأخذ عليّ عهد أن أعطيها هذه الرسالة في يوم الأربعين . تعجبت وقلت في نفسي ... يمكن عشان مواضيع الأرث الخاصة بمصانع الخَل والمحلات الموجودة لديهم في البلد ... فأكيد هذه الرسالة فيها نصائح لأشياء كان يخفيها عنها  لظروف خاصة , لأنه كان الإبن الوحيد علي ثلاث بنات , فيهما إثنتين ماتا أزواجهن . كما أنه أيضا لم يكن لديه ولدا. فقد تخلي  الكثير عن نصيبه في الإرث لإخوته البنات .. لأن الإرث كان غير كبير وهو في غِني عنه. 

بعد ما إنتهي يوم الإربعين قدمتُ الرسالة إلي زوجته إبتسام خفية  من وراء أسرته وإبنته... وإستأذنتُ وذهبتُ إلي عملي ولم يخطر علي بالي أي شيء عن ما تحويه الرسالة أكثر من موضوع الإرث ... وبعد رجوعي بالليل إذ تتصل بي إبتسام وهي تبكي بكاءً مُراً أكثر بكثير من يوم وفاته ... قالت لي تحب تسمع مكتوب إيه في الورقة ... قلت لها لو إنت عايزة أنا مستعد حتي تكون لي الفرصة أن أساعدك وأعاونك إذا لزم الأمر وإذا كان في مقدوري ... فبدأت تقرأ : [حبيبتي إبتسام ... قضيت معكي 15 عاما شربت المر فيهم ... لأنني أحببتك من كل قلبي . فقد كذبت عليكي في أول لقاء معك ... الحقيقة هي أنني  لم أتعود أن أشرب القهوة بالخَل من قبل ... قـُمتُ بهذا العمل لكي ألْفِت نظرك إليّ , فقد رأيتُ أنها الوسيلة الوحيدة للوصول إلي قلبك . سامحيني يا إبتسام . فلقد كنت أشربُ المُر كل يوم صباحاً  من أيديكي الحلويين لأجلك... للمرة الثانية أرجوكي  تسامحيني ] , إلي هنا إنتهي كلامه ...  وإذ هي تفاجئني وتقول لي ... [ده أنا اللي كنت بأحاول ألْفِت نظرهُ إليّ ... فقد بهرني قلة كلامه وهدوءه وأدبه, و أتعمدتُ أن أضع نفسي بين الشباب لكي أثيرهُ ويقوم ويتحرك أوحتي يتلحلح وييجي يكلمني ... يعني ماكنش فيه لزوم للخَل ده ومرارته طيلة السنوات الماضية! .... الآن أحسست أنني كنت قاسية عليه ... ياريت هو اللي  يسامحني ]..!! 

قمت بترجمة هذه القصة منذ أوائل الثمانيات ووجدتها بالصدفة في إحدي ملفاتي القديمة , لكن بأسلوب مُغاير وبشكل مختلف ...!! 
أما عن مشاعري نحو القصة  هو أن مُجملها ينطبق علي  فئات معينة من المصريين  يبتسمون طول اليوم ويحمدون ربهم لا يتكلمون فهم صامتون ... بالرغم من كمية الإهانات والمرار والمعيشة الصعبة والإزدراء بعقيدتهم ويٌعاملون بطريقة الكيل بالمكيالين والإضطهادات التي تقابلهم في كل لحظة ...  كل هذا الإحتمال و الصبر لأننا :-
 مِهما نشرب المُـــر .. أحنــــا بنحبك يامصـــر ....!!
 

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع
شارك بآرائك وتعليقاتك ومناقشاتك في جروبنا على الفيس بوك أنقر هنا
أعرف مزيد من الأخبار فور حدوثها واشترك معانا في تويتر أنقر هنا
  قيم الموضوع:          
 

تقييم الموضوع: الأصوات المشاركة فى التقييم: ٩ صوت عدد التعليقات: ٢٥ تعليق