يسجل التاريخ عن هذه الفترة أنها أعظم مراحل التاريخ المصري خصوبة، ففيها ستحدث التحولات العظيمة المبهرة، وسيشرق وعي جديد لم تعرفه مصر طوال تاريخها المديد، فالتغيير المنشود عند القاعدة الجماهيرية وفي القمة على حد سواء لن تصنعه فقط إرادة الثوار المتطلعين للحرية والحداثة بقواهم وإمكانياتهم الذاتية، فهناك إلى جانبهم قوة هائلة لا راد لها، نستطيع تسميتها قوة "حقائق الواقع" الراهن محلياً وعالمياً، فبلد بحجم مصر ليست أرجوحة يستطيع من يشاء دفعها للخلف، ليأتي آخر يدفعها للأمام، ليكون النصر في النهاية مرتهناً بقوة الطرفين متضادي الاتجاه، الأمر بالقطع ليس على هذا النحو، فمصر بطبيعة اقتصادها وموقعها الجغرافي والجيوسياسي مرتبطة بالعالم المحيط، ولهذا العالم حقائقه التي قد نتعامى عنها لبعض الوقت، فنسير بضع خطوات مفارقين لها، لكن لهذه المفارقة أو المخالفة لحقائق الواقع المحيط حدوداً يستحيل في مثل الحالة المصرية تجاوزها.
لحسن حظ مصر أنها ليست بلداً غنياً بموارد طبيعية تدر عليه ريعاً يتعيش عليه كإيران البترولية مثلاً، وإلا لأمكنها أن تضرب عرض الحائط بالعالم ومن فيه، وتختط لنفسها طريقاً مضاداً على هواها، وتتحول إلى بؤرة لتصدير الإرهاب للعالم، ولو أن ذلك أيضاً لابد وأن يكون في حدود وإلى حين، فالحصار الاقتصادي الجزئي على إيران أشد وقعاً من ضربها بقاذفات القنابل الثقيلة وصواريخ كروز، فمصر لا تستطيع إلا أن تنتج مقومات حياتها، وهذا لن يتحقق في عصرنا هذا إلا بالتوافق والتعاون المشترك مع المحيطين الإقليمي والعالمي، ولابد هكذا أن تلتزم بالمعايير ونوعية العلاقات المتفق عليها والسائدة عالمياً، حتى لو كان حكام مصر من النوعية التي أفنت عمرها تصرخ في المساجد والزوايا عن الخلافة الإسلامية وتطبيق الشريعة، وعن معسكر الإيمان ومعسكر الكفر، أو دار الإسلام ودار الحرب، وعن الحرب الأبدية مع اليهود أحفاد القردة والخنازير ومع النصارى الصليبين أعداء الله.
ما شهدناه من تراجع الإخوان إبان توليهم مسئولية البلاد عن مقولات جوهرية تعيشوا دهراً على تسويقها بين الجماهير مثل ربوية فوائد البنوك، والتي أعطوا لها تسمية جديدة طريفة هي "مصاريف إدارية"، وهي التسمية الحقيقية بالفعل لهامش من قيمة تلك الفوائد، والجزء الآخر هو فائدة رأس المال، ثم ما شهدنا من غزل لليهود الذين كانوا قبلاً أحفاد القردة والخنازير، وقد صاروا أصدقاء أعزاء، وبدلاً من أن نذهب نحن "شهداء بالملايين" لتحرير القدس، وجدنا من يدعو اليهود للعودة إلى وطنهم مصر، الأمر هنا أكبر وأخطر من أن يكون مجرد حلقة حلقات من التلاعب والتلون الإخواني الذي يتقنونه ونعرفه عنهم، لكنه "قوة الواقع" تساهم بالجزء الأكبر في حكم مصر، كما تساهم في حكم سائر شعوب الأرض، فمن يفشل في استطلاع معالم طريقه لابد وأن يسقط في حفره أو تشج رأسه صخوره، ولابد أيضاً وهو يسقط ويقوم أن يقوده الطريق، وإذا كنا قد رأينا بدايات هذا مع الإخوان الذين يعتبرون رؤاهم ومواقفهم مقدسة غير قابلة للتطور الذي يعدونه كفراً، فهو ينطبق بالأولى على قطعان العروبجية واليسارجية أصحاب الرؤى المفارقة للعصر والفاشلة في كل عصر. . الأمر أقرب لقدرية مادية مفتوحة، بمعنى أن الخروج على ما يبدو قدراً مادياً ممكن فقط لمن يجيد استخدام وتوظيف حقائق الواقع المادية، كما يمتنع ويستحيل الخروج عليه على أصحاب الرؤى الطوباوية المفارقة للواقع والمحتقرة له.
"قوة الأمر الواقع" أيضاً قد ظهرت في الساحة المصرية ذاتها، فحلم التمكين الإخواني الذي بدا وكأنه قد أوشك على التحقق بسيطرة التيارات الإسلامية على المجالس النيابية ورئاسة الجمهورية والوزراة بأجهزتها السيادية كالجيش والداخلية، نجد أن حقائق وطبيعة الجسد المصري هائل الحجم لم تلبث أن أطاحت بحلم التمكين الذي تصوره السادة "أصحاب الفضيلة" كوادر المحظورة دانياً، ورأينا ذات الشارع المصري الذي أعطى أصواته في صناديق الاقتراع لمن أوهموه أنهم "رجال الله الأطهار" يهب منتفضاً رافضاً "الأخونة" و"حكم المرشد"، بعدما ظهر للجماهير حجم الفشل الذي يتحقق إذا ما تولى الحكم من لا جدارة سياسية ومهنية له، وكذا ما لابد أن نلقاه من فشل إذا ما اعتنقنا تصورات بائدة للعالم استمدناها من كتب التاريخ العتيقة، واستعرنا منها علاقات توهمنا صلاحيتها لعصرنا الراهن، فالجماهير التي خرجت بمئات الآلاف في سائر المدن المصرية تهتف للدولة المدنية وسقوط الدولة الدينية لم تستفق نتيجة لحملات تنويرية قام بها دعاة الدولة المدنية، لكنه الصدام بين الواقع وبين الأفكار الطوباوية العتيقة المفارقة هو ما أنتج لنا هذه الصحوة المصرية التي بدت مذهلة ومبكرة.
توقعنا لحتمية انبلاج الفجر المصري لا يأتي إذن من تمنيات طوباوية، وإنما ينبع من ذات حالة التفسخ والانحلال التي عشنا بعضاً منها في المرحلة الماضية، فالموات لعناصر عديدة من أساسيات حياة عتيقة وتقليدية لابد وأن تعقبه قيامة لعناصر وليدة ترى النوور للمرة الأولى، كما أن ذبول أوراق الشجر وسقوطها بحلول فصل الخريف يعني ضمنياً أننا صرنا أكثر اقتراباً من ربيع يتهيأ للحلول، فالشعوب أبداً لا تموت، هي بحكم حتميات وجودية تجدد نفسها بنفسها، ومصر الآن بالفعل أقرب ما تكون لحالات عديدة من الموات الذي يموج بإرهاصات القيامة، فغرق العبارات وانقلاب القطارات وتصادمها وانهيار العمارات، وصدمتنا بالجرائم في حق الشعب المصري التي يرتكبها أحبابنا الأعزاء في تنظيم القاعدة وحماس وحزب الله، كل هذه ظواهر مادية لانهيار منظوماتنا الفكرية والأخلاقية والثقافية والسلوكية والاجتماعية، هي أعراض تصدع حياتنا بأكلمها وقد ضرب السوس والعفن في مفاصلها. . يصرخ الناس الآن "يا رب ارحم" من الكوارث التي تتوالى، لكنهم قريباً سيجدوا أنفسهم مضطرين لأن يرحموا أنفسهم من القيم والسلوكيات التي أوصلتهم لما وصلوا إليه، من الفهلوة وانعدام الضمير وعشوائية السلوك والتواكل والاستغراق في الغيبيات والخرافة، فالشعب الذي لا يستطيع أن يراجع نفسه وينتقدها، ليمارس باستمرارية عمليات هدم وإعادة بناء لن يكون قادراً على التحرك خطوة للأمام، مهما استغرق في تحميل حكامه المسئولية وصب اللعنات على رؤوسهم، فالأمر بالفعل أننا "نعيب على حكامنا والعيب فينا، وربما ما لحكامنا عيب سوانا"، وما حدث من تمكن الإخوان وسائر الإرهابيين من الوصول لكراسي السلطة في مصر إلا مجرد جزء من مأساة شعب كان قد سقط من عربة الزمن.
اتبع نظام مباركاً نهجاً حداثياً حذراً يراعي الموائمات مع التيارات الإسلامية واليسارية السائدة بالشارع المصري، وقد أدى هذا إلى حالة هي أقرب للركود منها للحركة الجدية للأمام في عصر يتطور بسرعة الإلكترون، الآن وبعد سقوط هذا النظام لم تصر مقولات الإخوان الظلامية فقط في مواجهة حقائق العصر ومتطلباته الحاكمة، بل أيضاً مقولات اليساريين المتحفية، فالحقيقة الواضحة أن ما تم منذ هوجة 25 يناير من تدمير للاقتصاد المصري عبر العصف برجال الأعمال لم يكن خلفه بالدرجة الأولى فكر الإخوان، بل هو العداء اليساري اللدود لما يسمونه الرأسمالية المستغلة، ما يعده آخرون من قبل "العداء للنجاح"، وقد وافق هذا بالطبع هوى الإخوان، ليحل تجارهم محل رجال الصناعة والتعمير، فبين اليسارية العروبجية والإسلام السياسي تتعدد الأيديولوجيات والفاشية واحدة وهو ذات بئس المصير، والآن بعد طرد الإخوان وأذيالهم من قصور السلطة، يأتي الدور على من يتأهبون من ذوي الرؤى العلمانية العتيقة البائدة للوثوب عليها، هؤلاء جميعاً ستصطدم رؤسهم بصخور الرأسمالية والعولمة، وسوف نراهم مفتضحين على الملأ وهم يزحفون عراة من كل ما صدعوا رؤوسنا به من أفكار وشعارات.
المعضلة المصرية إذن ليست معضلة توافق سياسي منعدم بين أطراف المعادلة الوطنية يمكن تلافيه بالمزيد من الحوار والتقارب، أو باتفاق الجميع وإقرارهم بوجوبية تداول السلطة، لكنه تضاد بين أمال عريضة يحلم بها الشباب، وبين نخب ماضوية متناحرة، لا تمتلك غير رؤى تعود إلى نصف قرن أو أربعة عشر قرناً مضت. . التضاد بين أفكار متوطنة وراسخة في كل من الشارع المصري والتيارات السياسية الناشطة فيه على حد سواء، من ولوا وجوههم شطر ماض مجيد اشتراكي أو عروبي أو إسلامي يبتغون استعادته متجاهلين وجاهلين لكل حقائق الواقع، وبين من ينظرون للمستقبل بأمل وإشفاق أو حتى برعب.
لا نقول بأننا إزاء حالة قدرية مادية حاكمة تقودنا إلى حيث تشاء، وتعفينا في الوقت نفسه من مسئوليتنا عن مصيرنا، فلاشك أن سلوك وتوجهات مختلف الأطراف بالساحة السياسية المصرية سيؤثر على النتيجة النهائية أو توجهات المستقبل، لكننا نظن أيضاً أن الدور الأكبر أو الأكثر ثقلاً في المعادلة هو ما أطلقنا عليه "حقائق الواقع" المحلي والعالمي،، فهي التي ستجبر كافة الفرقاء على الانزياح بمعاركهم أو مهاتراتهم باتجاه النجاة بالمركب المصرية من الغرق، مخلفين بل وكافرين بكل ما كانوا قبلاً مستعدين لسفك الدماء من أجله، مادام شعب تعداده 90 مليوناً لا يملك رفاهية الانتحار، مع ذلك لا أخفي على القارئ العزيز أن هناك فكرة تقض الآن مضجعي، أن الأحجار عندما تتصادم يحطم بعضها بعضاً فلا يتخلف عنها إلا الهشيم، فيما العناصر الحية في صراعها تتفاعل وتتلاقح، لتنتج الجديد المبتكر، فأي النهجين هو ما يحدث في بلادي الآن؟. . هذا ما سوف تجيب عليه الأيام!!
المجد للأجيال التي تدفع ثمن الحرية لتجدها الأجيال التالية عطية جاهزة مجانية. . المجد لأجيالنا المصرية الحالية، والحرية والسلام والرخاء للأحفاد.
kghobrial@yahoo.com
نقلان عن إيلاف