الثلاثاء ٢٩ اكتوبر ٢٠١٣ -
١٨:
٠٧ ص +02:00 EET
صوره تعبيريه
بفلم: مى مجيب مسعد
بعد أقل من شهر من وصولى إلى الولايات المتحدة الأمريكية ،ذهبت إلى مقر القنصلية المصرية بلوس أنجلوس من أجل قيد ابنى فى سجلات "الأبناء فى الخارج" حتى يتسنى له أداء الامتحانات التابعة لوزارة التربية والتعليم المصرية ، ومن ثم العودة إلى الصف الدراسى التالى بعد العودة إلى مصر العام القادم بإذن الله.
وبمقر القنصلية، فعلا أشعر بأننى أرى الوجوه التى أعتدها ، ذات اللغة، العلم المصرى المرتبط عندى بشرائه من "إشارات المرور" فى الآونة الأخيرة سواء فى إطار "ثورة" أو "انتفاضة" أو "صحوة شعبية" أو حتى ما أسماه بعضهم ب"الانقلاب"! وجدت المصريين هناك ، من هاجر منها منذ 2010 ، ومن لم يذهب إليها منذ سبعينيات القرن الماضى، من يتوق للزيارة رغم ما يسمعه عن تراجع الأمن وشكوى الأقارب، من حُفرت على وجهه خطوط بعدد سنوات الغربة وتعتصره حالة من الحنين لأى قادم من هناك.
وبحكم الطبيعة المصرية التى تعصف بكيانى ، ولأننى كنت الأحدث التى غادرت الوطن إلى هنا، بدأت الحديث عن طبيعة الأوضاع فى مصر، وبدأ كل الجلوس ينصت فى اهتمام شديد، يسأل ويستفسر ويحاول أن يهون، ويترحم على أيام الصبا والشباب. ثم دخل "الساعى" ب"صينية" الشاى التى طلبها أحد العاملين بالسفارة ، لتجد كل من هؤلاء يرجع بذكرياته عشرات السنين ليتذكر الساعى الذى كان يخدم على "الكافيتريا" بالمصلحة الحكومية أو البنك الذى كان يعمل به. ثم تجد أحدهم يتندر بأغانى أم كلثوم ويجزم أن أعتى المطربين الأمريكيين أو أفلام "هوليوود" المبهرة لاتعدو إلا أن تكون نقطة فى بحر ذلك الموروث الثقافى المصرى الممتد.
بدأت فى الحديث عن أسباب مجيئى إلى الولايات المتحدة، وإذا بسيدة تتخطى السبعين ،ابتسامتها لاتغادر وجهها ، الرضا يتحرك فى كل ملمح من ملامحها، ترتدى ملابس داكنة فى حشمة ووقار، تخرج من حقيبتها ورقة عليها عنوان منزلها وتلح علىّ ألا أتردد فى التواصل معها ، تعطينى أرقام هواتفها المنزلية والمحمولة، وتسألنى عن اسمى ،وبعد سماعه تقول " اسم جديد! لم أسمعه قبل ثمانية وثلاثين عاما من مغادرتى للحبيبة مصر!
بدأنا فى تجاذب أطراف الحديث وكيف أتت إلى هنا فى السبعينيات مع زوجها وبناتها ، ورحلة الكفاح ،وتعليم البنات ، ثم رحيل الزوج بعد عشرين عاما من الهجرة، ثم المثابرة وتربية البنات، وزواجهن ، والنجاح فى العمل فى إحدى شركات التأمين التى وصلت فيها لأن تكون نائبة المدير وأحد أهم العاملين فى الشركة.
ثم دخلت إلى الموظف المختص باستلام أوراق قيد ابنى ، وأثناء خروجى ،ألقيت عليها السلام بشدة قبل الانصراف، فإذا بها تطلب بشدة أن توصلنى إلى منزلى، أكدت عليها أنه لاحاجة إلى ذلك، فالمواصلات العامة متاحة، وسأعود كما أتيت، رفضت بشدة ، وقالت: " منزلى مجاور لمنزلك ولامجال للتفكير فى الرفض أو القبول"! انتظرتها حتى تتمكن من قضاء مصلحتها هى الأخرى، وانصرفنا معا.
طوال الطريق تتحدث معى العربية وتصر على استخدام المفردات العامية التى لايعلمها سوى من ترعرع على أرض المحروسة لسنوات، تحكى أنها ولدت بمدينة "القنطرة شرق" ثم انتقلت إلى مدينة "المنصورة" بعد زواجها ، تسرد أدق الذكريات وتنسج خلية رائعة من قصاقيص حياة تراها مرت سريعا ،وأراها أنا حياة ثرية ، أجد نفسى –أحيانا- مفتقدة لمثلها إما لفارق السن أو الخبرة أو لفارق التوقيت وظروف الوطن.
وقبيل الوصول ، أجدها تقول: "مى أرقامى وعنوانى معك ،لا حجة لديك، إن احتجت لأى شىء، ستجدينى عندك ولو بعد منتصف الليل". لم أتعجب أو أندهش فهى مصرية، عهدت "جدعنة" المصريين، عاصرت معنى الجيرة الحقيقى، وتشبعت بتعاليم الله عندما قالتها "الله محبة" . هذه السيدة لم تتفاعل أو تهتم بال"دردشة" معى إلا لكونى مصرية ، لكوننا تقابلنا فى مقر القنصلية المصرية، لكوننا من نفس الأصول والثقافة والعادات ،لكوننا نتشارك ذات الملامح والروح، لكونها مُحبة ، ولكونها مؤمنة بأن "الله محبة".