بقلم /ماجد كامل
في شهر مارس من كل عام وبالتحديد في 21 منه ؛ تحتفل الدولة بعيد الأم ؛ وذلك لما تمثله الأم من قيمة ومعني ؛ فالأم اعظم تعبير عن المحبة والبذل والتضحية .
ولقد رفعت المسيحية من قدر الأم واعطتها قيمة كبري لذلك اوصي الكتاب المقدس الأبناء أن يكرموا والديهم ؛ تقول الوصية الخامسة من الوصايا العشر (اكرم أباك وأمك كما أمرك الرب إلهك لكي تطول أيامك ؛ ولكي يكون لك خير علي الأرض التي يعطيك الرب إلهك ) "تث 5 :16 " راجع ايضا "خر21 :17 " و"لا 20 :9 " و تث "27 :16 " . كما جاء في سفر الامثال لسليمان الحكيم قوله (اسمع لأبيك الذي ولدك ؛ولا تستهن بأمك إذا شاخت ...
فليفرح أبوك وأمك ؛ ولتبهتج والدتك ) "ام 23 :22 – 25 " وقال ايضا ( العين المستهزئة بالأب والمستخفة بطاعة الأم تفقأها غربان الوادي وتأكلها فراخ النسر ) "ام 30 :17 " . وجاء في سفر طوبيا (أكرم والدتك ولا تتركها جميع أيام حياتها ؛ وأعمل ما يطيب لها ولا تحزن نفسها بأي أمر كان . أذكر يا بني المخاطر التي تعرضت لها من اجلك وأنت في أحشائها ) "طو 4 ؛4 " كما ورد في سفر يشوع بن سيراخ (الرب اكرم الأب في أولاده . وأثبت حق الأم علي بنيها . من اكرم اباه فانه يكفر عن خطاياه ويمتنع عنها ويستجاب له في صلاة كل يوم . ومن احترم أمه فهو كمدخر الكنوز . من إحترم اباه طالت ايامه .
ومن أطاع أباه أراح أمه . الذي يتقي الرب يكرم أبويه ويخدم والديه كأنهما سيدان له . فخر الإنسان بكرامة ابيه ومذلة الام عار للبنين . من خذل اباه فهو كالمجدف . ومن أغاظ أمه فلعنة الرب عليه ) "يشوع بن سيراخ 3 :- مقتطفات من 3 – 18 " وجاء ايضا في يشوع بن سيراخ ( أكرم اباك بكل قلبك ولا تنس اّلام أمك .
أذكر انك منها ولدت . فماذا تكافئها علي ما صنعا اليك ؟ ) "يشوع بن سيراخ :7 :7 ؛8 " . كما نقرأ في سفر الملوك الاول عن سليمان الحكيم وهو ملك البلاد عندما دخلت أمه عليه يقول الكتاب (فقام الملك للقائها وسجد لها وجلس علي كرسيه ووضع كرسيا لأم الملك فجلست عن يمينه ) "1 ملوك 2 :19 " وجاء السيد المسيح له المجد في العهد الجديد ليؤكد هذه الوصية فقال (أكرم أباك وأمك . ومن سب أباه أو أمه فليمت موتا ) "مت 15 :4 " ؛ كما قال معلمنا القديس بولس الرسول (أكرم أباك وأمك . تلك اول وصية يرتبط بها وعد وهو لتنال خيرا وتطول أيامك علي الأرض ) "اف 6 :2 ؛3 " .
وفي تاريخ الكنيسة نقرأعن القديس العظيم يوحنا ذهبي الفم الذي أجل قرار رهبنته من أجل رعاية والدته الارملة والمسنة فلم يغادر المنزل وينطلق الي البرية إلا بعد نياحتها ؛ كذلك نقرأعن القديس والفيلسوف العظيم "اغسطينوس" الذي كتب في اعترافاته عن لحظة نياحة والدته القديسة "مونيكا" انه حاول في البداية ان
يمسك دموعه عن البكاء وعندما انهارت مقاومته استسلم للدموع وقال قولته المأثورة ( الا يجب ان أن أسلم نفسي للدموع ساعة لأجل تلك التي كانت تعوم فراشها كل يوم بالدموع ساعات من أجل توبتي وخلاصي ) ومن تاريخ الكنيسة ايضا نذكر القديسة "إميليا " والدة القديس العظيم باسيليوس الكبير والتي انجبت للكنيسة مع القديس باسيليوس القديس غريغوريوس اسقف نيصص والقديس بطرس اسقف سبسطية وشقيقتهم الكبري القديسة ماكرينا التي صارت رئيسة لأحد أديرة الراهبات . ولن ننسي بالطبع ونحن نكتب عن الأم أمنا وسيدتنا كلنا والدة الاله العذراء الطاهرة القديسة مريم والتي صارت اما لجميع المؤمنين وذلك عندما قال السيد المسيح له المجد وهو معلق علي خشبة الصليب لتلميذه يوحنا الحبيب ( هوذا أمك ) " يو 19 : 27 " وهذا هو ماتعبر عنه الترنيمة الشهيرة :-
حبك يا مريم غاية المني يا أم المعظم يامريم كوني أمنا
أبنك أوصاك بنا علي الصليب أعطانا اياك في شخص الحبيب
كالأم الحنونة بك نستعين أظهري المعونة منك للبنين
يا أم الرجاء والحب الجميل يا باب السماء حبك السبيل
وفي نفس السياق نذكر أمنا الكنيسة القبطية الارثوذكسية التي ولدتنا في جرن المعمودية ؛ والتي يقول عنها الاباء ( من لا يأخذ الكنيسة له أما . لا يستطيع أن يأخذ المسيح له أبا ) وعنها تقول الترنيمة الجميلة :-
الكنيسة أمي وأنا أبنها وغالية علي وفي دمي حبها
كما تقول عنها ترنيمة اخري هي "أعروس الفادي القبطية " :_
يا أمي أثارك في الوادي وحنانك يغلي في فؤادي
ها عهدي وفائي وودادي أن أخدم بيعة أجدادي
أم الشهداء جميلة أم الشهداء نبيلة عبرت بحرت الالامات حفظت بدماها الحق قويم
وإذا ما أنتقلنا إلي الأدب المصري القديم فأننا نجد النص التالي وهو مكتوب علي متون احد المقابر الفرعونية علي لسان احد الاباء ( تذكر أمك التي كثيرا ما تحملت عبئك ولم تتركه لي ؛ وحينما التحقت بالمدرسة وتعلمت الكتابة فيها ظلت تواظب دوني علي الذهاب اليك بالخبز والماء ؛فمتي كبرت واتخذت زوجة لك واستقريت معها في بيتك ؛ضع امام نصب عينيك كيف ولدتك أمك ؛ وكيف كانت تربيتها لك ) . ومن نصائح الحكيم "اني" " من الاسرة الثامنة عشر" ضاعف قدر الخبز الذي تعطيه لأمك ؛ واحملها في كبرها كما حملتك في صغرك ) وقال ايضا ( قدم الماء لأبيك وأمك وأياك أن تغفل هذا الواجب حتي يفعل ابنك مثلك عندما تشيخ ).
. وفي الحضارة الأغريقية نجد عبارة جميلة للفيلسوف اليوناني الشهير سقراط ( 469- 399 ق.م) يقول فيها" لم أطمئن قط إلا وأنا في حضن أمي" . وقال الشاعر الانجليزي الشهير وليم شكسبير ( 1564-1616 ) " ليس في العالم وسادة أنعم من حضن الأم " كما قال أيضا الرئيس الأمريكي آبراهام لنكولن ( 1809- 1865 ) "وهو الرئيس السادس عشر من رؤساء الولايات المتحدة الأمريكيية ؛
وفي عهده قام بتوقيع وثيقة تحرير العبيد " " أني مدين بكل ما وصلت إليه ؛وكل ما أرجو ان أصل إليه من الرفعة إلي أمي الملاك " وهناك قصة جميلة رويت عن فريدرك الثاني ملك بروسيا(ألمانيا حاليا ) ؛انه قرع الجرس ذات مرة لكي يوقظ خادمه ؛ فلما لم يحضر ؛ذهب إليه فوجد ورقة بارزة من جيبه ؛ وعندما تفحصها وجد رسالة من أم الغلام تشكره فيها علي الدراهم التي أرسلها إليها من مرتبه ؛وتدعو له بالبركة ؛
فلما وقف الملك علي هذا الخطاب ذرفت عيناه بالدموع ؛ودخل في الحال وأخذ بضعة جنيهات ووضعها في صرة بجانب الغلام ؛ ورجع الملك إلي مكانه ودق الجرس دقا قويا ؛فأستيقظ الغلام ونهض مرتعشا ؛ وعندما وجد الصرة التي بها الجنيهات بجانبه ؛أرتعد بشدة وبكي بكاءا مرا ؛فسأله الملك لماذا تبكي ؟ فألقي الخادم بنفسه عند قدمي سيده ؛وحلف له قائلا : لا أعلم يا مولاي من أين أتت إلي جيبي هذه الصرة ؟! ؛وربما فعل هذا عدو لهلاكي " ؛فأجابه الملك بهدوء وقال له "هديء من روعك وكن مطمئن الخاطر ؛ وأعلم أن الله في أكثر الأحيان يهبنا خيراته ونحن لا ندري ؛ فأرسل هذا المبلغ إلي والدتك وبلغها السلام ؛ وقل لها أني من الآن فصاعدا سأهتم بها وبك شخصيا ؛ولا أنساكما
وإذا ما نظرنا إلي الأدب العربي وتاملنا بعض صفحاته نجد الشاعر أبو العلاء المعري( 973- 1057 ) يقول :-
العيش ماضي فأكرم والديك به والأم أولي بإكرام وإحسان
وحسبها الحمل والإرضاع تدمنه أمران بالفضل نالا كل إنسان
وقال أيضا الشاعر العراقي معروف الرصافي( 1875- 1945 ) :-
أوجب الواجبات إكرام أمي إن امي أحق بالإكرام
حملتني ثقلا ومن بعد حملي أرضعتني إلي أوان فطامي
ورعتني في ظلمة الليل حتي تركت نومها لأجل منامي
إن أمي هي التي خلقتني بعد ربي فصرت بعض الأنام
فلها الحمد بعد حمدي ياإلهي ولها الشكر علي مدي الأيام.
وتنتقل بعد ذلك الي الهند الحديثة لنلتقي مع شاعرها العظيم "رابندرانت طاغور" "1861 -1941 " فلقد تعرض الي تجربة قاسية في صباه إذ توفيت والدته وهو في سن الثالثة عشر من عمره ؛
وعن هذه التجربة كتب يقول ( لما خرجنا الي غرفة أمي وجدناها نائمة فوق سريرها ؛ ولم يكن منظرها يوحي بأن الموت رهيب ؛ كان وجهها عذبا امنا ؛كما لوكانت مستغرقة في نوم هانيء عميق ؛ ولم يكن اي شيء يوحي لنا بتلك الهوة السحيقة التي تفصل الموت عن الحياة ؛ وحين تم نقل نعشها وسعينا مع الموكب الحزين في الطريق امتلأ قلبي بالألم والحزن ؛ وأنا أفكر في أن أمي لن تعود بعد الان الي البيت ؛ وقد مضت الاعوام ؛
وفي أيام الربيع ؛كلما تمشيت في الحديقة وداعب زهر الياسمين جبيني تذكرت أنامل أمي وهي تمس جبيني مسا رقيقا ؛فكان يملؤني الإحساس بأن الحنان الذي كان كان يحرك أنامل أمي الساحرة يتجلي أمامي مرة أخري في نقاء زهر الياسمين ؛ وأن حنان أمي لا يزال باقيا في هذا الزهر ؛ لا ينفذ ولا يفني ؛لقد حرمني القدر من أمي وأنا فتي صغير ؛فأصبحت وحيدا ألوذ بنافذتي وأتامل في أسرار الطبيعة ؛ وامتلاء خيالي بما يترقرق في الكون من صور شتي ؛لقد كانت الطبيعة رفيقي الذي وجدته إلي جواري دائما )
اما عن أثر الأم في حياة اديبنا العالمي الكبير الاستاذ الراحل نجيب محفوظ "1911 – 2006 "؛ فهي التي غرست فيه عشق التراث المصري القديم سواء كان التراث الفرعوني أوالقبطي أوالاسلامي وعن هذا الأثر كتب يقول ( كانت أمي سيدة أمية لا تقرأ ولا تكتب ؛ومع ذلك كنت أعتبرها مخزنا للثقافة الشعبية ؛فلقد كانت تتردد علي حي الحسين بأستمرار ؛كما كانت دائمة التردد علي المتحف المصري ؛وكانت تحب قضاء أغلب الوقت في حجرة "المومياوات " ؛ثم إنها كانت بنفس الحماس تذهب لزيارة الاثار القبطية خاصة دير مارجرجس بمصر القديمة ؛ ومن كثرة ترددها علي الدير نشأت صداقة بينها وبين الراهبات ؛وكانوا يحبونها جدا . وذات مرة مرضت والدتي ولزمت الفراش ؛
ففوجئنا بوفد من الراهبات يزورها في البيت ؛ وفي ذلك اليوم حدث انقلاب في الشارع لأن الناس لم يعتادوا رؤية هذا المنظر من قبل ؛ والحقيقة أني تأثرت بهذا التسامح الجميل لأن الشعب المصري لم يعرف التعصب ).
عندما سألت احدي الامهات واحدا من علماء التربية الكبار "متي ابدأ في تربية ابني ؟ " فكان جوابه "قبل ان يولد بعشرين سنة " والمعني المقصود هنا هو تربية الأم اولا قبل تربية الأبناء ؛ حقا لقد صدق شاعر النيل حافظ ابراهيم "1871 -1932 " عندما قال :-
الام مدرسة إذا اعددتها اعددت شعبا طيب الاعراق
وبعد فأننا نهدي هذا المقال تحية الي كل أام في عيدها وفاءا وعرفانا بالجميل بفضل كل أم ولن ننسي بالطبع امنا الكبري مصر .