د.عبدالخالق حسين
شيئاً فشيئاً، ورغم المصاعب والعراقيل، وتكالب أعدائها، تسير الديمقراطية العراقية بخطى ثابتة نحو النضج والتكامل ولو ببطء. ومن علامات هذا النضج هو نجاح الانتخابات الأخيرة، وإعادة اصطفاف القوى السياسية بصورة أفضل، ودعوة معظم السياسيين والإنتلجنسيا العراقية إلى تشكيل حكومة الأغلبيىة السياسية المنسجمة
بدلاً من حكومة الشراكة الوطنية المتناحرة التي أدت إلى شل الحكومة خلال السنوات الأربع الماضية. كما ووضعت الانتخابات الأخيرة العديد من الكتل والكيانات السياسية على المحك، فكشفت معدنها الحقيقي في التمييز بين أنصار الديمقراطية الحقيقيين، وبين أدعيائها المزيفين الذين أرادوا أن تكون لهم قدم في الحكومة وأخرى مع إرهاب فلول البعث (داعش)، وفرض إرادتهم بالقوة والإبتزاز.
فبعد إجراء الانتخابات البرلمانية يوم 30 نيسان/أبريل الماضي، توجهت أنظار العالم إلى العراق ثانية في انتظار النتائج وتشكيل الحكومة. وكالعادة، نتوقع أن تمر ولادة الحكومة الجديدة بمخاض عسير ومواجهة العقبات. والجدير بالذكر أن النتائج الأولية تشير إلى فوز كتلة دولة القانون برئاسة السيد نوري المالكي في بغداد العاصمة والمحافظات الوسطى والجنوبية. ففي بغداد صوَّت للمالكي نحو مليون ومائتي ألف صوت
أي ضعف العدد في الانتخابات السابقة عام 2010، بينما هبط رصيد خصمه اللدود أياد علاوي إلى 200 ألف أي إلى نصف ما حققه في الانتخابات السابقة. كما وتشير هذه النتائج إلى أن كتلة المالكي ستبرز كأكبر كتلة برلمانية يحق لها وفق الدستور تشكيل حكومة الأغلبية السياسية، رغم اعتراضات بعض الكتل التي مازالت تطالب بحكومة الشراكة التي اثبتت تجربة السنوات العشر الماضية فشلها. إن فوز كتلة المالكي لا يسر أعداء الديمقراطية في الداخل والخارج الذين يريدون تجاهل إرادة الأغلبية، وفرض إرادة الأقلية وتحت مختلف الحجج والذرائع
ومعهم بعض الصحف الخليجية الوهابية التي راحت تدق طبول الحرب الأهلية، وتقسيم العراق إذا ما تسنم المالكي رئاسة الوزراء للمرة الثالثة. وهذا بالطبع ضد أهم مبدأ من مبادئ الديمقراطية. والغريب أن الإعلام السعودي الوهابي يريد أن يعطي للعراقيين درساً بالديمقراطية!!! كذلك فوز المالكي قدم دليلاً مادياً قوياً أن شعبنا لم ولن يتأثر بضجيج وطنين وهذيانات الإعلام المضلل، والكتبة المرتزقة الذين سخروا أقلامهم ضد مصلحة شعبهم وباعوا أنفسهم للشيطان مقابل السحت الحرام من الحكومات النفطية.
فالذين يشعرون بعزلتهم وخسارتهم في الانتخابات الأخيرة، أو هبوط رصيدهم في عدد المقاعد البرلمانية، راحوا يلفقون الأكاذيب ويرعدون ويزبدون ويحذرون من تزوير نتائج الانتخابات. وعلى سبيل المثال، صرح الدكتور أحمد الجلبي، من كتلة المواطن (الحكيم): أن (قوات عسكرية وسوات اقتحمت مراكز الاقتراع وأخرجت المراقبين وصادرت الصناديق)(كذا). هذا الخبر رغم خطورته إلا إننا لم نسمعه إلا من الجلبي! ولله في خلقه شؤون.
أما السيد عمار الحكيم، رئيس المجلس الأعلى الإسلامي "فقد هدد المفوضية العليا للانتخابات بـ"رد حاسم" اذا كانت نتائج الانتخابات غير منطقية". ولا بد أنه يقصد بـ(غير منطقية) إذا كان عدد المقاعد التي حصل عليها تنظيمه دون توقعاته.
ولكن الأغرب من كل هذا هو تقرير نشرته المسلة جاء فيه: (ابتدع رئيس ائتلافِ "متحدون" اسامة النجيفي، ورئيس المجلس الاعلى الاسلامي عمار الحكيم، مفهوماً جديداً في المصطلحات السياسية العراقية، حين اشترطا "المقبولية" داخلياَ واقليمياَ ودولياَ لرئاسة الوزراء في العراق، ما يعني ضرب ارادة الناخب العراقي عرْض الحائط، والاذعان لإرادات الدول الاقليمية والتدخل الخارجي، وميول الكتل السياسية، في تحديد رئيس الحكومة العراقية المقبلة).
ونحن إذ نسأل: إذا كان من شروط تشكيل الحكومة العراقية هذه الخلطة العجيبة والغريبة من "المقبولية" فلماذا كل هذه الصرفيات الكبيرة على الانتخابات وتعريض 12 مليون ناخب عراقي لمخاطر الإرهابيين؟
أما الإعلام المضاد وعلى رأسه الإعلام السعودي، فراح يروج للحرب الأهلية إذا ما فاز المالكي. يعني طز بالانتخابات والديمقراطية! وبعد أن تأكد لديهم أن كتلة دولة القانون برئاسة المالكي ستكون الكتلة البرلمانية الأكبر مما يحق له دستورياً ولاية ثالثة في تشكيل الحكومة، راحوا يهددون الشعب العراقي بتقسيم العراق. وفي هذا الخصوص قامت صحيفة (الشرق الأوسط) السعودية بإجراء مقابلة مع أربع شخصيات، ثلاث منها عراقية، وأكاديمي لبناني. والملاحظ أن اللبناني هو الوحيد الذي التزم بالمنطق، حيث منح الحق للمالكي في تشكيل الحكومة إذا ما نجح في اجتذاب كتل سياسية أخرى. فقد طرحت الصحيفة السؤال التالي: هل ثمة ما يمنع من التقسيم الفعلي وانفصال كردستان؟ فالجواب من السيد عدنان حسين، المحرر في صحيفة المدى لصاحبها فخري كريم، وكما هو متوقع منه قائلاً: "لا..
العوامل الخارجية مواتية.. وخصوصا إذا بقي المالكي".
والجدير بالذكر أن هؤلاء يعتبرون أنفسهم ديمقراطيين وعلمانيين حد النخاع، ولكنهم في نفس الوقت يرفضون ما تفرزه صناديق الاقتراع، وما تصوت عليه الأغلبية البرلمانية، لذلك راحوا يهددون بتقسيم العراق، وهذا ابتزاز فج ومدان، ودليل على عدائهم الصريح للديمقراطية وموقف الأغلبية. ولكن كما قال أحد الحكماء: "أحكم على الشخص بأفعاله وليس بأقواله". فسلوك هؤلاء لا يختلف عن سلوك البعثيين. وهذا يذكرنا بمقولة صدام حسين: (أكثر العراقيين بعثيون وإن لم ينتموا). فالبعث هو سلوك قبل أن يكون انتماء رسمي لحزب سقط في مزبلة التاريخ.
والمؤسف أن السيد مسعود بارزاني هو الآخر أنضم إلى الذين يفرضون شرط المشاركة في الحكومة المركزية بمنع المالكي من الولاية الثالثة، إذ نقل عنه قوله أن كتلته ستقاطع البرلمان المركزي، والحكومة المركزية إذا ما فاز المالكي وتم تكليفه بتشكيل الحكومة القادمة. وهذا موقف ضد الديمقراطية. والمعروف أن السيد بارزاني يسمي الحكومة المركزية برئاسة المالكي بـ(حكام بغداد)، وهذا الأسلوب في المخاطبة يستخدم عادة من قبل ناس معادين للحكومة، ولا يليق بشخصية قيادية كبيرة مثل السيد مسعود بارزاني في مخاطبة حكومة لحزبه مشاركة فعالة فيها.
أود أن أذكر هؤلاء السادة الذين اعتمدوا أسلوب الابتزاز وتخويف الشعب من تقسيم العراق والحرب الأهلية، بدراسة نشرتها مؤسسة راند الأمريكية عام 1993، أي قبل 22 سنة، بعنوان: (العراق في العقد القادم: هل سيبقى العراق لغاية عام 2002 ؟) للباحث غراهام إي فولر، وهي دراسة مستفيضة ترجمت إلى العربية، ونالت في وقتها اهتمام السياسيين والمثقفين العراقيين، شكك الباحث في إمكانية بقاء العراق موحداً إلى عام 2002. واليوم نحن في عام 2014، والعراق رغم مشاكله الكثيرة، إلا إنه مازال موحداً، أرضاً وشعباً يتحدى مراهنات أعدائه.
وفيما يخص انفصال كردستان، ورغم أني مع حق الشعب الكردي في تقرير مصيره، وتشكيل دولته القومية، لأن الانفصال السلمي من مصلحة الطرفين، فهكذا زواج بائس غير مرغوب به، ورغم أن (الطلاق أبغض الحلال إلى الله) إلا إنه حلال في حالات صعوبة استمرار الزواج المصحوب بالمشاكل، وليكن الطلاق بالمعروف وتسريح بإحسان وبطريقة سلمية وأخوية. فالانفصال ليس سبة، بل في كثير من الأحيان فيه راحة وسعادة للجميع. فهناك العديد من الفيدراليات انفصلت بسلام، مثل انفصال السلوفاك عن الجيك. وهاهي سكوتلاندا تهيئ للاستفتاء الشعبي في شهر أيلول/سبتمبر القادم للإستقلال من المملكة المتحدة (بريطانيا العظمى). ولكن العقبة الكأداء التي تواجه الزعيم الكردي، السيد مسعود بارزاني، أنه سيكون من أكبر الخاسرين إذا ما انفصل في الظروف الدولية الحالية،
وذلك لأن دول الجوار، إيران وتركيا، ستبتلعان جمهوريته أو إمارته، ناهيك عن احتمال اشتعال الاقتتال بين "الأخوة الأعداء" من مكونات الشعب الكردي كما حصل في عام 1996 يوم طلب كاكا مسعود من صدام حسين إرسال قواته العسكرية لطرد أنصار مام جلال وبقية المعارضة العراقية من أربيل، وقسمت كردستان إلى حكومتين، شرقية عاصمتها السليمانية، وغربية عاصمتها أربيل. وعليه نرى أن من مصلحة كاكا مسعود والشعب الكردي دعم الجمهورية العراقية الفيدرالية الديمقراطية وعدم الانجرار مع أعداء العراق (السعودية وقطر وتركيا)، وضياع الفرصة كما أضاع والده الملا مصطفى البرزاني عندما تحالف مع البعث الفاشي في اسقاط حكومة 14 تموز، ومن ثم دفع الشعب الكردي ثمناً باهظاً نتيجة لهذه الغلطة القاتلة، اعترف بها كاكا مسعود نفسه.
والآن نأتي للإجابة على السؤال الوارد في العنوان: هل ممكن تشكيل حكومة الأغلبية بجميع مكونات الشعب و دون مشاركة جميع الكيانات السياسية كما كانت حكومة الشراكة الوطنية؟؟
الجواب: نعم، ممكن وللأسباب التالية:
أولاً، صحيح أن معظم الأحزاب السياسية العراقية تشكلت وفق الانتماء القومي والجغرافي والمذهبي، إلا إن كل مكون هو الآخر منقسم على نفسه في كيانات سياسية عديدة متنافسة فيما بينها. فتمثيل المكون الواحد ليس محصوراً على حزب سياسي معين ليكون الممثل الشرعي الوحيد دون غيره لذلك المكون. وعلى سبيل المثال، ليس من حق المالكي، أو عمار الحكيم أو مقتدى الصدر، الادعاء بأنه الممثل الشرعي الوحيد لشيعة العراق. وبالمثل لا يحق للسيد مسعود بارزاني، أو جلال طالباني أو أنوشروان مصطفى الادعاء بأن حزبه هو الممثل الشرعي الوحيد للشعب الكردي، وإذا لم يشارك حزبه في الحكومة المركزية الفيدرالية فهذه الحكومة لا تمثل الشعب الكردي. ونفس الكلام ينطبق على قيادات الكيانات السياسية العربية السنية : (متحدون) بقيادة أسامة النجيفي، و(العربية) بقيادة صالح المطلق، و(الوطنية) بقيادة أياد علاوي...الخ.
لذلك فيمكن أن يعاد اصطفاف الكتل البرلمانية في تحالفين كبيرين أو أكثر، كل تحالف يضم نواب من كيانات سياسية من جميع مكونات الشعب العراقي، عرباً وكرداً، سنة وشيعة وتركماناً ومسيحيين... وغيرهم. والتحالف الأكبر هو الذي يُكلف بتشكيل الحكومة الإئتلافية. وفي هذه الحالة فالحكومة المركزية تمثل جميع مكونات الشعب دون عزل أو إقصاء أي مكون.
يؤكد هذا الطرح ما أفادت به الأنباء عن تحركات واسعة ولقاءات متواصلة بين قيادات الكيانات والكتل السياسية لتشكيل هذه التحالفات. وعلى سبيل المثال جاء في الأنباء أن (دولة القانون، والمواطن، والاتحاد الكردستاني، والعربية، يسعون لتشكيل حكومة برئاسة المالكي). وهذا لا يمنع من تشكيل تحالفات أخرى تضم كيانات سياسية أخرى، ليكلف رئيس الجمهورية الجديد التحالف الأكبر بتشكيل الحكومة، والتحالف الأصغر يجب أن يقبل بالقيام بدور المعارضة الديمقراطية تحت قبة البرلمان، وليس في ساحات الاعتصامات والتهديد بالحرب الأهلية، أو الابتزاز بتقسيم العراق.
هذا فيما يخص تحالف الكيانات السياسية لتشكيل الحكومة. أما حصة كل كيان مشارك في الحكومة الإئتلافية من الأغلبية السياسية فيتناسب مع نسبة المقاعد البرلمانية التي حصل عليها ذلك الكيان السياسي. و لاختيار الشخص المناسب في المكان المناسب في الحكومة من كل كيان، ندعو قادة الكيانات السياسية الاستفادة من تجاربهم السابقة، وتصحيح الأخطاء الماضية. وفي هذا الخصوص نقترح أن يكون هناك نوع من التعاون والتفاهم والانسجام بين رئيس الوزراء، وقادة الكيانات السياسية المشاركة.
إذ من الأفضل أن يتم مسبقاً توزيع الحقائب الوزارية ونوعيتها، الخدمية أو السيادية ...الخ، وعلى قيادات الكيانات السياسية اختيار الأكفأ من بين أعضائها، ويفضل أن يكون هذا السياسي المرشح لوزارة ما من التكنوقراط يعرف متطلبات الوزارة التي سيكلف بتسنم مسؤوليتها، وتقديم خلاصة سيرة ذاتية (C.V.) عن المرشح لهذه الحقيبة الوزارية أو تلك إلى رئيس الوزراء. ومن حق رئيس الوزراء أن يتمتع بفسحة من الحرية في اختيار الأفضل، وإقالة الوزير الفاشل، وأن ينذرهم في أول اجتماع، بأن الحكومة الجديدة تحت الاختبار والمراقبة من الشعب والإعلام والبرلمان ومنظمات المجتمع المدني، ليس لمائة يوم، بل للسنوات الأربع من عمر الدورة البرلمانية. ويعمل مجلس الوزراء بانسجام كفريق عمل (Team work) أشبه بفريق كرة القدم، يمكن لرئيس الوزراء إقالة الوزير أو الوزيرة في حالة الفشل والعجز في أداء الواجب بما يرضي الشعب والمؤسسات الديمقراطية، وتبديله بالأكفأ.