الأقباط متحدون - الأقباط بين الدولة والمجتمع والكنيسة (1)
  • ٠٧:٠٧
  • السبت , ٢٩ سبتمبر ٢٠١٨
English version

الأقباط بين الدولة والمجتمع والكنيسة (1)

كمال زاخر موسى

مساحة رأي

٤٤: ١٠ ص +02:00 EET

السبت ٢٩ سبتمبر ٢٠١٨

الوالى محمد على
الوالى محمد على
كتب: كمال زاخر
مازلنا رغم مرور ما يزيد عن المئتى عام على تأسيس الدولة المدنية مع قدوم الوالى محمد على فى اعقاب الصدمة الحضارية للحملة الفرنسية، نتجادل حول بديهيات أركانها، وكأننا فى أول عهدنا بها، وليس أدل على ذلك من الإختلاف حول وضعية الأقباط (المصريون المسيحيون) بها، ولا يتوقف الأمر عند من يسعون لإحياء دولة الخلافة، حلمهم الأثير المفارق لمعطيات المعاصرة، بل يذهب إلى الأقباط أنفسهم، وتتراوح مواقفهم بين من يرون أن لهم وطن "تانى"، ينتظرونه، هناك، خلف حجب الزمن، فلا ينتبهون للوطن الأرضى وربما يزدرونه، وبين من يرون ملكيتهم الحصرية للوطن، هنا، وسواهم ضيوف يزاحمونهم عنوة فيه، وبينهما تتوزع الرؤي بأوزان مختلفة، وإن كانت الغالبية ترى نفسها جزء من نسيج اجتماعى إنسانى يقرون فيه بالتنوع والتعدد على ارضية المواطنة مدعومين بمعطيات التاريخ وأحكام الجغرافيا يربط بينهم "النيل" ذلك الحبل السُرى السرمدى.
 
هنا والآن لدينا حقائق على الأرض تشكل هذه الوضعية، على رأسها الزحف الدينى المتشدد والمتصحر الذى صاحب الصعود الإقتصادى للجزيرة العربية بفعل الحقبة النفطية، فى مقابل التراجع الذى تعانى منه دول المنطقة الحضارية، واختلالات سياساتها وتخبطها وارتدادها من شبه الديمقراطية وشبه الليبرالية إلى حكم الفرد بتنويعات مختلفة، انتهت إلى تأميم الشارع السياسى وتجميد حراكه ومن ثم تعطيله عن الإكتمال، فكان أن تضخمت الإنتماءات الذاتية، وصار الدين لاعباً أساسياً حاضراً وكاد أن يكون وحيداً.
 
وبحكم ارقام المعادلة المصرية الدينية، وتنامى المد الأصولى والمتطرف، يجد الأقباط أنفسهم فى موقع المفعول بهم، وعليهم الإنصياع لما تراه الأغلبية وهو مد مدعوم بثقل اقتصادى إقليمى يفرض رؤيته على إنظمة مترهلة فقدت بوصلتها وقدرتها على الإستقلال بقرارها، وراحت هذه الأنظمة تبحث عن أوراق توت تستر بها عوراتها، وتجمل صورتها، فى مواجهة العالم خارج محميتها الطبيعية، ولكنها لم تنجح فأوراق التوت سرعان ما تجف وتسقط.
 
ولم تسعفها ذهنيتها فى استيعاب متغير الثورة الرقمية وما انتجته من آليات تواصل جعل من العالم "قرية صغيرة"، وكانت أحداث الهجوم على برجى مركز التجارة العالمى بمنهاتن ومقر وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاجون) ـ 11 سبتمبر 2001 ـ وأحداث الغزو الأمريكى للعراق ـ 19 مارس 2003 ـ أبرز تطبيقات هذه الثورة، إذ نقلتها الأقمار الصناعية لشاشات الفضائيات وقت وقوعهما لحظة بلحظة، ليتابعها العالم بأسره، من ساكنى القصور إلى قاطنى الأكواخ، وقس على ذلك نقل الأحداث التى تقع فى أصغر قرية وحارة فى أى مكان بالعالم، دون أن تقدر أعتى الأنظمة والتقنيات على ملاحقتها ومنع بثها الى العالم بأسره، فتعمقت أزمة هذه الدول، وبدلاً من أن تراجع واقعها أصرت على استخدام نفس المفاتيح القديمة، فيما العالم قد هجرها الى الكارت الممغنط.
 
كانت التداعيات تتوالى، موجات من القيم المتصحرة تطرد القيم المصرية تباعاً، منظومة العلاقات البينية تنحى باتجاه الإنتماءات الضيقة، مفردات اللغة الشعبية تتجهم، موجات الهجرة الدائمة والمؤقتة تتزايد، اقتصاد الإنتاج يرتبك ثم ينهار ليحل محله اقتصاد الريع، ومعه ادواته يتقدمها السمسرة والعمولات، الباب الملكى للفساد، الذى يمد اطرافه الأخطبوطية الى مفاصل الدولاب الحكومى والمجتمعى، ويتحصن بغطاء دينى سميك يوظف لتبريره وتمريره، حتى يصير الخبز اليومى الذى نقتاته.
 
كانت البدايات المنظورة مع قدوم الرئيس السادات الى الحكم فى لحظة ملتبسة تشهد غياب عبد الناصر الشخص والرمز والرؤية، فيهتز الطرح العروبى وينتعش جناح الكتلة التقليدية الراديكالية المقابل، وتشهد المنطقة صعود الإقتصاد النفطى والأصولى معاً، وفى الخلفية يخيم شبح الهزيمة وانكسار يونيو 67، وتتصاعد وتيرة الحرب الباردة بين القطبين الأعظم، وحين يتحقق نصر اكتوبر تجرى فى النهر مياه كثيرة، ويحل الإنحياز للغرب أو قل الإنصياع له بغير رؤية، ويذهب الحياد إلى مرقده بسلام، ويأتى الإنفتاح الإستهلاكى ليبتلع ما بقى من اقتصاد الإنتاج.
 
يغازل الرئيس السادات التيار الإسلامى الراديكالى، المنتشى بالدعم النفطى والغربى بآن، ويستولى على المشهد السياسى والمجتمعى، ويتقلص الوجود المدنى بأطيافه، فى الشارع والجامعة والدولاب الحكومى والإعلام، كان الرئيس يبحث عن مشروعية شعبية فى مواجهة الوجود الطاغى لعبد الناصر رغم رحيله، فكان أن اعطى قبلة الحياة للتيارات الراديكالية الإسلامية، وكانت تلك التيارات تقدم خدماتها وولائها الظاهرى للنظام، فجمعتهما مائدة المصالح، اللافت أن نَخب الصداقة شربه الأقباط قبل أقل من سنة من تولى السادات الحكم، فى أحداث الخانكة الطائفية، 1972، التى دشنت طريقاً لم ينتهى بعد لمتوالية الأعمال الإرهابية التى تستهدف الأقباط.
 
يذهب السادات اغتيالاً ـ 6 اكتوبر 1981 ـ وقد خلف وراءه وطناً مثخناً بجراح عميقة، ومجال اقليمى مرتبك، كانت سجون ومعتقلات مصر قد اتخمت بكل رموز التيارات السياسية والدينية المعارضة للرئيس السادات، التى صدرت بحقها قرارات اعنقال ـ 5 سبتمبر 1981 ـ ولم تكن الكنيسة ورموزها بعيدة عن قائمة المعتقلين، التى تضمنت العديد من الأساقفة والكهنة، بينما تم اعتقال البابا البطريرك الأنبا شنودة خلف اسوار دير الأنبا بيشوى بوادى النطرون، وسمى اعتقاله "تحفظاً"، ويأتى رئيس جديد مازالت ملابسات قدومه غائمة، يبادر بالإفراج عن معتقلى السادات ويستقبل بعض من رموزهم فى قصر الرئاسة، فيما يُبقىِ على البابا البطريرك خلف اسوار الدير، معتقلاً، حتى يتم تسوية الأمر، بعد ثلاث سنوات عجاف، بتوافقات هى فى حقيقتها بحسب المتابعين أقرب إلى عقود الإذعان، رضخ لها البابا الأسير، ليعود إلى كرسيه ـ 6 يناير 1985 ـ وقد أدرك توجهات الحكم الجديد وقبل بها وانعكس هذا على ادارته للأزمات بطول حكم مبارك، وانتقل من المصادمة إلى التسويات، بفعل الخبرة المؤلمة والصادمة لسنوات الإعتقال والإقامة الجبرية خلف اسوار الدير.
 
لم يتغير الأمر كثيراً مع قدوم الرئيس مبارك، بل لعله ازداد غموضاً، وقد انتقلنا من رئيس لديه خبرات سياسية وحياتية متباينة إلى رئيس لم يبرح دائرة الخبرات المهنية الادارية العسكرية، فتبنى ادارة المشهد بالقصور الذاتى. وكان يقف وراءه ارث بيروقراطى عميق، بينما كانت خبرته السياسية غائبة تشكلها قواعد التجربة والخطأ.
 
كان المشترك بينهما، السادات ومبارك ـ متعلقاً بالأقباط، تبنى تلك المعادلة التى أوجزها الدكتور ميلاد حنا، القطب المصرى القبطى، "أن الدولة اختزلت الأقباط فى الكنيسة واختزلت الكنيسة فى الإكليروس ـ رجال الدين ـ واختزلت الكنيسة فى البابا"، ليجد البابا نفسه رقماً متقدماً فى المنظومة السياسية المصرية، فى موقع الوكالة، اللافت هنا أن البابا المعاصر لهما، البابا شنودة الثالث، جاء مع مجئ السادات ورحل مع رحيل مبارك، (1971 ـ 2012). 
 
ما بين حسابات السياسة ووضعية الأقباط والإرث المجتمعى الثقيل وتجريف القيم المصرية لحساب القيم المتصحرة الوافدة والجنوح نحو التأويلات الدينية المتشددة والعنيفة فى جانب والمنسحبة والمنكسرة فى جانب، يأتى قبول كل الأطراف لتلك المعادلة. ولهذا حديث تال.

 

الكلمات المتعلقة