الأقباط متحدون - تهافت عليها رجال العالم وتناثر الذهب تحت أقدامها ونافست الخديوي في الثراء: قصة أشهر «راقصة» عرفتها مصر
  • ٠٣:٣٥
  • السبت , ٢٩ سبتمبر ٢٠١٨
English version

تهافت عليها رجال العالم وتناثر الذهب تحت أقدامها ونافست الخديوي في الثراء: قصة أشهر «راقصة» عرفتها مصر

فن | المصري اليوم

١٣: ٠٦ م +02:00 EET

السبت ٢٩ سبتمبر ٢٠١٨

أرشيفية
أرشيفية

 تبدأ الطرافة في هذه القصة وفقا لمجلة «الكواكب» عدد يناير 1955، و«الأهرام» و«الشرق الأوسط» و«الوطن الكويتية» منذ اليوم الأول الذي بدأ فيه الفن يجتذب قلب «شفيقة»، ففي عام 1871، كانت في مصر راقصة عظيمة الشهرة اسمها «شوق»، وفي ذلك العام، دعيت «شوق» لترقص في بيت أسرة عريقة من أسر الأقباط لمناسبة زواج أحد أبناء الأسرة، واستطاعت «شوق» أن تدهش الفتيات برقصها الرائع، وفي فترات استراحة «شوق» كانت الفتيات المدعوات يرقصن مشاركة للأسرة في فرحها وكان هذا عرفا سائدا في ذلك الوقت.

 
لم يشهد الشرق العربي كله منذ عصر العباسيين راقصة بلغت من الشهرة والمجد والثراء ما بلغته شفيقة القبطية، فحياة «شفيقة» قصة عجيبة، مليئة بالطرائف والمغامرات، فهي تصلح لأن تكون سيناريو لفيلم سينمائي عظيم.
 
ونهضت من بين المدعوات فتاة سمراء جميلة الملامح فاتنة القسمات، وبدأت ترقص، وبعد دقائق كانت الدهشة والإعجاب أذهلا المدعوات، فلما ختمت الفتاة رقصتها، تقدمت إليها «شوق» وقبلتها، وقالت لها: «اسمك إيه يا عروسة؟»، وردت عليها الفتاة في استحياء: «شفيقة»، فقالت «شوق»: «إنتي خسارة.. ما تيجي أعلمك الرقص؟»، وثارت والدة «شفيقة»، معتبرة هذه الدعوة إهانة، لأن الرقص كان في ذلك الوقت عملا غير لائق في نظر الأسر المحافظة، وكان يطلق على محترفاته «الغوازي»، وعندما استعدت والدة «شفيقة» للانصراف بصحبة ابنتها، غمزت «شوق» بعينها لـ«شفيقة» غمزة فهمت معناها.
 
رقصة للإمبراطورة
 
كانت «شوق» أول راقصة استطاعت أن تجعل لنفسها مكانة محترمة بين العائلات الكبيرة، وكانت الراقصة الوحيدة التي يسمح لها أن ترقص في الحفلات التي يقيمها الخديو إسماعيل، وعندما افتتحت قناة السويس، رقصت «شوق» بين المدعوين لحفلة تكريم الإمبراطورة «أوجيني» التي جاءت لحضور حفلة الافتتاح، ولهذا شعرت «شفيقة» أنها محظوظة عندما أظهرت لها «شوق» هذا الإعجاب والتشجيع.
 
وكانت أسرة «شفيقة» من الأسر المسيحية المتدينة، فكانت تلزمها أسرتها بتأدية الصلاة في الكنيسة، وكانت «شفيقة» تخرج بحجة أنها ستؤدي الصلاة، ثم تذهب إلى بيت «شوق» بشارع محمد علي، وازداد ترددها على «شوق» التي لقنتها الدروس الأولى في الرقص.
 
وفجأة اختفت «شفيقة»، فجن جنون الأسرة، وبحثت عنها في كل مكان حتى يئست من العثور عليها، وبعد حوالي 6 أشهر علمت الأسرة أن «شفيقة» تعمل راقصة في أحد الموالد الكبرى بالوجه البحري، فأرسلت إليها قسيسا لينصحها بالرجوع عن هذا الطريق الذي يدمر مكانة عائلتها، لكن القسيس فشل في إقناع الفتاة التي بدأت تضع قدميها على أولى درجات الشهرة والثراء، ولم يسع الأسرة المحافظة إلا أن تتبرأ من فتاتها المتمردة.
 
على العرش
 
لم تعبأ الفتاة الشابة بهذا القرار، ولعلها أرادت أن تثبت لأسرتها أنها لم تنحرف عن استقامتها، فأطلقت على نفسها اسم «شفيقة القبطية» اعتزازا وتمسكا منها بديانتها، وعادت إلى القاهرة لتعمل مع أستاذتها «شوق» لتعمل في الأفراح الكبرى، وبعد 6 أشهر، ماتت «شوق» فخلت الساحة لـ«شفيقة»، وفي فترة قصيرة تربعت على عرش فن الرقص، ولمع اسمها، فأصبحت الأسر الكبيرة تباهي بأنها جاءت بشفيقة القبطية في أعراسهم.
 
وأرادت «شفيقة» أن تجري تجديدا يتناسب مع شهرتها، فابتدعت رقصة «الفنيار» فكانت تميل بجسمها إلى الخلف وتحمل على بطنها منضدة صغيرة تضع عليها 4 كوبات مملوءة بالشربات، وتضع على جبينها «فنيارا» أو «شمعدان» مضاء بالشموع، ثم ترقص على هذه الحال وفي يدها الصاجات ، فلا تسقط الأكواب، ولا ينزلق الشمعدان لقدرتها العجيبة على حفظ توازنها.
 
وازدات شهرة هذه الراقصة يوما بعد يوم، فسعى إلى «شفيقة» أصحاب الملاهي الكبرى يغرونها بالأجور لترقص في ملاهيهم، حتى استطاع ملهى «إلدورادو» أن يتعاقد معها، وبذلك بدأت حياة جديدة، وبدأت الثروة تتدفق عليها.
 
وبدأت في حياة «شفيقة» مرحلة جديدة، حيث التف حولها عشرات من المعجبين الأثرياء، وأحاط بها أعداد كبيرة من العظماء والكبراء، وتوافد لمشاهدة رقصها كبار السائحين الأجانب الذين نقلوا اسمها وشهرتها خارج مصر، وأصبح الملهى الذي ترقص فيه ممتلئا عن آخره طوال الوقت، لكن «شفيقة» لم تلتفت لأحد.
 
وعندما تقف «شفيقة» على خشبة المسرح لترقص، كانت الجنيهات الذهبية تتناثر تحت أقدامها تحية لها من المعجبين والعشاق، لكنها كانت لا تمد يدها إلى شيء منها، بل كانت تستخدم 3 من الخدم يجمعون هذه الجنيهات ويقدمونها لها بعد انتهاء وصلة الرقص، وقيل إن واحدا منهم كان يحتفظ لنفسه ببعض هذه الجنيهات، فاستطاع في مدى قصير أن يقتني ثروة اشترى بها عقارات في حي شبرا، وبذلك استطاع أن يعتزل الخدمة.
 
شمبانيا للخيل
 
كان من عشاق «شفيقة» 2 من أغنى أغنياء مصر، أحدهما أنفق في سبيل إرضائها مئات الألوف من الجنيهات حتى فقد ثروته عن آخرها بدون أن يحصل من «شفيقة» على أكثر من لمس يديها، والثاني شديد الثراء وكان دخله لا يقل عن 300 جنيه ذهبي في اليوم، بلغ إعجابه بـ«شفيقة» إلى حد أنه كان يأمر بفتح زجاجات الشمبانيا للخيل التي تجر عربة «الست شفيقة القبطية».
 
وانتقلت «شفيقة» للرقص في ملهى «ألف ليلة» فكانت تظهر في ملابس موشاة بخيوط من الذهب، وتلبس حذاء غطت كعبه طبقة من الذهب، مرصع بالماس الحقيقي والجواهر وتتحلى بأطقم من الذهب والجواهر، قيمة الحذاء خمسة آلاف جنيه، أي خمسة آلاف جنيه من الذهب.
 
واتسعت شهرة الراقصة العجيبة، فبدأت إحدى الشركات الفرنسية التي تصنع أدوات ومواد الزينة تضع صورة «شفيقة» على منتجاتها، وظهرت زجاجات عطر و«مراوح» وعلب بودرة تحمل صورتها، وانتشرت في أنحاء العالم، وظهرت مناديل رأس عليها صورة «شفيقة» وتهافت عليها الرجال من جميع أنحاء العالم، وتلقت «شفيقة» الكثير من الهدايا التي أرسلها الأجانب الذين شاهدوها في مصر.
 
ومن بين هؤلاء الأجانب تاجر فرنسي أعجب بـ«شفيقة» وأحبها، وأراد أن يتزوجها فرفضت، وعاد يقترح عليها أن يأخذها إلى باريس لتعرض فنها هناك، فأعجبت بالمغامرة، وسافرت حيث رقصت فسحرت باريس التي كانت يقام فيها في ذلك الوقت معرض دولي كبير، استأثرت الراقصة المصرية بمعظم رواده، اشتركت في معرض أقيم في باريس فقدمت فنها الراقص فنالت جائزة من المعرض الباريسي واستقبلتها صحافة مصر بلقب الراقصة العالمية والدولية وملكة الرقص الشرقي، وتلقت عروضا من ايطاليا واسبانيا وتونس، والجزائر لإحياء احتفالاتهم وأفراحهم.
 
تنافس الأمراء
 
وعادت «شفيقة» إلى مصر لتستأنف استقبال المجد والثراء، وكانت عاصمة الأناقة، باريس، أصقلت ذوقها، فازدادت أناقتها، وأصبحت الملابس التي تلبسها والحلي التي تتجمل بها هي موضة العصر عند سيدات الطبقة العليا.
 
وأدركت «شفيقة» أنها أصبحت «ملكة الرقص الأولى في العالم» بلا منازع، وأرادت أن تستكمل مظاهر الترف والثراء، فاقتنت 3 عربات «حنطور» فاخرة، واقتنت عشرات من الخيل الأصيلة، وإذا خرجت صباحا ركبت عربة «كومبيل»، وإذا خرجت ظهرا ركبت «تينو»، وإذا خرجت ليلاً في الصيف ركبت «الفيتون» المكشوف، وكل عربة من هذه العربات يجرها 4 من الخيول، ويحيط بها 2 من «القشمجية»، ويتقدمها 2 من السياس يصيحان: «وسع.. وسع».
 
وفي أحد مرات، كانت «شفيقة» تتنزه بموكبها في الجزيرة، وكان الأمير حسين كامل يتنزه في المنطقة نفسها، وعندما رأى الموكب ظن أنه لأحد الأمراء، وعندما علم حقيقة الوضع، غضب وذهب إلى الخديوي وأخبره أن سيدة مصرية تنافس الأمراء، بل تنافس الخديوي نفسه في الثراء والعظمة، وسرعان ما أصدر الخديوي «ديكريتو» أو أمرا يمنع أصحاب العربات من استخدام «السياس، والقشمجية»، وقصر استخدامهم على الخديوي والأمراء.
 
ومن مظاهر الترف التي كانت تعيش فيها ملكة الرقص «شفيقة» أنها كانت تستخدم طائفة من الخدم الإيطاليين، وكانت لا تفصل لهم ملابسهم إلا عند أشهر خياطين في مصر وهما «كلاكوت» و«ديفز براين» اللذين كان الوزراء يفصلون ملابسهم عندهما، وكانت إذا انتقلت من بلد إلى بلد استأجرت صالونا خاصا في القطار تركبه مع حاشيتها وخدمها.
 
جانبها الإنساني
 
وفي حياة «شفيقة» جوانب إنسانية رفيعة، فقد كانت كريمة إلى حد كبير، ويقال إنها رأت في أحد المرات مشاجرة بين رجلين، وعندما سألت عن سببها قيل لها إن أحد الرجلين استأجر من الآخر دكانا وعجز عن دفع إيجاره عدة أشهر فنشبت بينهما هذه المعركة، فتقدمت «شفيقة» ودفعت متأخر الإيجار كله ومنحت مستأجر الدكان مبلغا كبيرا، وفي مرة أخرى، سمعت «شفيقة» أن تاجر أقمشة كبير ممن كانت تتعامل معهم، موشك على إعلان إفلاسه، فأسرعت إليه لتمده بمال لإنقاذه من الإفلاس.
 
وإلى جانب هذا، كانت لا تتردد في إحياء أفراح بعض الفقراء بدون أن تتقاضى أجرا، بل وكثيرا ما كانت تمنح العروسين مساعدة مالية تعينهما على قضاء شهر عسل سعيد.
 
بخل القدر
 
ورغم بذخ «شفيقة» في الإنفاق وإسرافها وكرمها، استطاعت أن تجمع ثروة ضخمة، فكانت تملك عدة دور في حي باب البحر، وأخرى في حي شبرا، وحارة السقايين، وعدة قصور كانت تعيش فيها، واستطاعت أن تحقق كل أمنية لها في الحياة إلا واحدة حال القدر دون تحقيقها، وهي أن تصبح أما.
 
كانت «شفيقة» تتمنى أن تكون أما، لكنها لم تنل هذه الأمنية فتبنت طفلاً أطلقت عليه اسم «زكي» وأغدقت عليه الحنان وعاش معها حياة مرفهة، فنشأ مدللاً، وكان يرهقها بالمطالب فلا تبخل عليه، وأفسده التدليل فتعاطى الخمر والمخدرات، وأرادت أن تفرح به فزوجته زواجا مبكرا، وأقامت له الأفراح 6 أيام، واشترك في إحياء فرحه عدد كبير من المطربات والمغنين، لكن الشاب ساءت حالته بسبب إدمانه، فمات بعد فترة وجيزة من زواجه، وحزنت عليه «شفيقة» حزنا هز كيانها.
 
الصحراء المجدبة
 
وتقدمت «شفيقة» في العمر، وبدأ طابور المعجبين يتناقص بالتدريج، وتلفتت وراءها فلم تجد منهم أحدا، فعادت إليهم تناديهم فلم يستجب أحد للنداء، وبدأت تدفع ثمن إبعادهم عنها، حاولت أن تجذب الشباب المحروم إليها وتغريهم بالمال، فكانوا يتمتعون بمالها ويستغلونها ولا يعطيها أحد حبا حقيقيا.
 
وبدأت الثروة تتبدد بعد أن بطل السحر وولى الشباب، ولم يبق لـ«شفيقة» من كل ذلك المجد غير ذكراه، ولم يبق لها من ثروتها غير بيت واحد في شبرا أرادت أن تعيش فيه فأجرت بعض غرفه، لكنها أحبت شابا أجبرها على بيعه، فباعته وافتتحت محلا لبيع الخمور في شبرا، لكنها اضطرت لبيعه إرضاء لفتى جديد لم يلبث أن هجرها، فاضطرت أن تعود للرقص بعد أن ظهرت عليها ملامح الشيخوخة في ملهى «بوظة» بباب الخلق مقابل أموالا قليلة، لكن شهرة «شفيقة» كانت قد انطفأت بعد ظهور 3 حسنوات جديدات في عالم الرقص هن «معتوقة»، و«زهرة العربية»، و«نفوسة غرام»، ورغم أن هؤلاء لم يبلغن ما بلغته «شفيقة» من الشهرة والقدرة إلا أن جمالهن كان كفيلا بتفوقهن عليها، وهكذا اختفى ضوء شفيقة القبطية.
 
وأصيبت بصدمة عاطفية، فباعت المقهى وسافرت مع الحبيب إلى تونس واستمرت عدة شهور تنفق ببذخ وتلعب على موائد القمار وتحتسي الخمر بشراهة وتقبل على المخدرات حتى ذهب عنها الثراء وأصيبت بأمراض منها السكري الذي أعاق الرقص والحركة، وفي أوائل القرن العشرين، بدأت تهيم في شوارع القاهرة طالبة الإحسان من المارة ورواد المقاهي، في ليلة نادت على سيد درويش قائلة له: «أنا مش عايزة فلوس، نفسي أدوق السمك»، فبكى «درويش» عليها كيف كانت تغطى بالحرير وتلهو بالذهب والجواهر والحلي ثم تحولت إلى هائمة متسكعة تتمنى أن تذوق وجبة من السمك في المطاعم الشعبية.
 
وافترشت الحصير في أحد البيوت الشعبية في شارع «نخلة» بحي شبرا وطلب لها صاحب البيت الطبيب أحمد سري بك لكي يعالجها، فذهب إليها ليجد جسدا خاوياً هزيلا كالمومياء يحتضر لا يجدي به العلاج، وفي عام 1926، أغمضت شفيقة القبطية عينيها وتوفيت في عمر الخامسة والسبعين، وسار وراء جنازتها 2 فقط، ولم تترك مالاً لإعطاء الحانوتي فتطوع اثنان أحد ازواجها والثاني معلم العربي الكارو، لتودع دنيا حفلت بأمجادها وصفقت لها أكثر من نصف قرن.
الكلمات المتعلقة