محمد حسين يونس
مع إنقلاب .. ضباط جيش الملك علي ( الفوضي السائدة ).. و (الميوعة.. في مقاومة الإستعمار) .. و (الفقر الذى يعيش في إطارة المواطن المصرى في الريف و الأحياء الشعبية) ..
أصبحنا نقتات علي شعارات أطلقها المنقلبون مثل (( الإتحاد و النظام و العمل )) .. أو( (الإصلاح الزراعي و تأميم الأرض لصالح الفلاح المعدم )) .. أو ((تعمير الصحارى )).. و نرددها بإيمان و يقين وحب
و كانت تؤجج عواطفنا و تلهبها الاغاني الحماسية مثل (( عل الدوار عال الدوار .. راديو بلادنا فيه أخبار )) .. (( فدادين خمسة .. حزرعهم فلفل و شطيطة )) .. (( زود جيش أوطانك و إتبرع لسلاحة )) .
ثم زادت الوتيرة مع عدوان 56.. و إنفجارة الأغاني التي أطلقتها الإذاعة في مواجهة المعتدين .
و لكننا كنا نرصد أيضا تغييرات أخرى علي أرض الواقع حتي لطفل صغير مثلي ..
فلقد تم تغيير نظم التعليم و أصبحت إبتدائي خمس سنوات و إعدادى ثلاثة .. و ثانوى ثلاثة .. و كنا الدفعة التي بدأ معها تجريب النظم الجديدة فحصلت علي أول إعدادية .. و أول ثانوية عامة .. و إخترت كليتي من خلال أول مكتب تنسيق ..
و صاحب النظام الجديد تخصيص بعض المدارس .. مثل (( خليل أغا )) التي تم تحويلها لإعدادى و نقل طلاب ثانوى منها لمدرستنا ليكسروا كل التقاليد التي كنا نتبعها ..و يهزأوا بنا علي أساس أننا العيال الفافي المدلعة .. صغيرة السن ..
و تزدحم الفصول .. و تتوقف الوجبات الساخنة .. و تعليم أداب المائدة ليحل محلها سندوتشات في قفص جريد توزع علينا مع قطعة فاكهه في الفصول
.. و بدأت المدرسة تتسخ بقشر الموز و البرتقال .. و تقل الأنشطة الرياضية و الثقافية ..و تزداد المشاجرات .. التي قد تنتهي بالجروح .. و الكدمات .. و لم تعد مدرستي (فاروق الأول ) بل أصبحت ( العباسية الثانوية ),
البكباشي محمد علي المنشاوى .. صديق والدى .. كان يسكن ( و عائلته ) في منزل قديم بشارع الشرفا .. لذلك كانت إبنته ناهد زميلة لي في مدرسة الرهبات..
و كنا نلعب معا في المدرسة و خارجها عندما يزور أى منا الأخر .. بعد فترة تركت المدرسة و إلتحقت بمدرسة الإلهامية الإبتدائية ثم فاروق الثانوية و إستمرت هي في مدرستها و لم نعد نلتق كثيرا
في يوم بعد الثورة بسنة أو إتنين طلب والدى مني مرافقته لزيارة صديقة .. و اللعب مع إبنته .. في المنزل الجديد بمصر الجديدة .
العمارة في ميدان تريمف تطل علي كازينو شهير هناك .. و خلفها صحراء ممتدة غير مأهولة . و الوصول إليها تطلب ركوب مواصلتين .
فتح لنا سفرجي أسمر يرتدى قفطان و حزام أحمر علي وسطة .. ثم قادنا للصالون المذهب الفاخر المغطي بقماش أبيسون مشغول .. ثم بعد فترة .. جاء أنكل محمد يرتدى روب ديشامبر و حذاء خفيف مريح .. فحي والدى بترحاب ثم إقترح أن نجلس في الفراندة التي تطل علي الميدان .
لقد بدى شخص أخر أرستقراطي السلوك و الملبس بعد أن كان مثلنا يعيش في حينا .
و قبل أن يسأل والدى علي (الأملة ) اللي بقي فيها صاحبة .. قص علينا أنها شقة من شقق الخواجات الذين تم ترحيلهم من مصر .. و أنها كانت من نصيبة ..
ثم عرفنا منه أن ناهد و أمها في الأسكندرية يقضون فصل الصيف بعد إنتهاء الدراسة فجلست مع الكبار أستمع لاحاديثهم المملة .
أنكل محمد كان رغم العز اللي هو فيه ..غير راض عن الوظيفة التي منحوها إياه .. و هو يقول أنا مش أقل من فلان و فلان وفلان .. يا إما يدوني مديرية ( أى يصبح محافظا ) .. أو مصلحة كبيرة .. غير كدة البدلة في الدولاب ألبسها و أرجع لوحدتي .
السفرجي جاء يسأل عن طلباتنا و معه طبق به تفاح يلمع .. شديد الإحمرار وضعه علي الترابيزة التي بيننا .. و الدى طلب قهوة سادة .. و أنكل محمد ناولني تفاحة
التفاح كان فاكهه مجهولة بالنسبة لنا ..لذلك عندما قضمتها و وجدتها شديدة الحلاوة .. أنهيت عليها بسرعة
كانوا لازالوا يتحدثون عن المناصب التي تولاها الضباط من معارفهم .. و المكاسب التي تحصلوا عليها .. و كنت أنا أنظر لطبق التفاح ..حين تنبه صاحب الدار فاعطاني واحدة أخرى .. و قشر واحدة لوالدى ..لقد ((أحضر لي فلان كام صندوق من لبنان و البنت بتحبه قوى )).
عندما تثاءبت و إحمرت عيناى .. قام والدى مغادرا .. و في الطريق عتب علي أنني تصرفت بشكل غير مهذب عندما أكلت أكثر من تفاحة .
لم يكن أنكل محمد المنشاوى هو الوحيد الذى ترك حينا .. فإن إبن خال أمي (القائم مقام) سليمان كاظم .. إنتقل بعائلته إلي شارع عبد الخالق ثروت .. في شقة تطل علي السفارة السويسرية ..
المكان واسع لدرجة أننا ( أنا و أبناؤه ) كنا نلعب الكرة في الصالة .. و كنت أتوه في المنزل لكثرة الحجرات ..
و هناك إندهشت فلقد كان لديهم سخان غاز بالحمام .. و مياة ساخنة تنزل من حنفيات الأحواض .. بدلا من عذاب وابور الجاز و الصفيحة الممتلئة مياه ساخنة ..
وفي المطبخ أيضا يوجد فرن يعمل بالغاز .. و هو أمر لم يكن متوفرا إلا في مباني نصف البلد .
و هكذا بدأ التغير يطفو علي السطح .. تقتير علي الطلاب .. و بحبوحة للضباط ..
لقد ظهرت معالم التميز الطبقي في العائلة الواحدة .. و بين الأصدقاء .. و إنكمشنا بعزة نفس بعيدا عنهم.. و لم نعد نتحدث في مثل هذه الأمور بل عندما كانت تقص أمامي .. التغييرات الحياتية التي حدثت لاقاربنا الضباط كنت أتشاغل حتي لا أشعر بالغير .. و الدونية .
حول عام 56 .. كان هناك أحاديث عن البابا كيرلس و حكمته و معجزاته وذلك قبل تنصيبه بعد ثلاث سنوات علي ما اذكر .
.
أخذني أبي لمكان مجهول لي في كلوت بك قد يكون البطريركية القديمة أو مبني ملحق بالكنيسة ..
كنا في صحبة أنكل بنيامين صديق والدى .. إنتظرنا مع أخرين في صالة واسعة .. ثم دارت علينا كبايات الشربات .. و بعد فترة أذن لنا بالدخول في حضرة الرجل المبروك ..كان الناس يقبلون يدة بما في ذلك والدى .. و كل منهم منتبها لما يدور حوله ..
بدأ أبي الحوار .. ((أبحث عن اليقين .. !! )) ثم صمت ..
نظر الأخر في عينية مباشرة .. و قال كما تخترق أشعة الشمس الزجاج فلا تكسرة فتشعر بدفئها .. فإن الإيمان يخترق القلب .. فلا تشعر به و لكنه يملأك يقينا .
في مسجد الحسين .. كان الشيخ الصاوى شعلان .. شيخ مشايخ الطرق الصوفية ..يترك خلوته و ينزل علي السلالم الخشبية .. قبل والدى يدة .. ثم سأله نفس السؤال عن اليقين
الغريب أن الشيخ رد نفس رد القس .. ((الإيمان هبة يمنحها الرحمن .. تخترقك و تملأ قلبك نورا .. و يقينا)).
لا أعرف الأسباب التي جعلت والدى .. يتساءل .. و لكننا كنا في زمن تنقلب فيه كل القيم و الأفكار .. و الإيمانات .... لقد بدأت التغيرات الطبقية تفعل مفعولها .. و تهز الراسخ بما في ذلك الإيمان بعدالة السماء و إنتصار الحق ..
لقد صاحب التدهور الذى حدث في التعليم .. تغييرا في الصحة .. و المواصلات و توليد الكهرباء و توزيعها .. و في السكك الحديدية و التليفونات .. و الرى و ملكية الأرض .. و قوانين تخفيض الإيجارات .. و لم نعد هؤلاء الذين يعيشون في مجتمع النصف بالمائة الذى يتحدثون عنه ليل نهار . لقد زاد القادرون قليلا ليشملهم حضرات الضباط سواءالعامل منهم او المتقاعد .
و هكذا نصل إلي بداية الستينيات .. و مرحلة ثانية من حياتي ..
و قبل أن أنهي المرحلة الأولي .. نعود لسنة 1960 عندما كنت طالبا في السنة الثانية عمارة من هندسة عين شمس .. و كان يدرس لنا التصميم أستاذ إسمة( يحي عيد ) .. كان مع كل مشروع جديد يرسم لطالب من الطلاب تصميمة .. ثم ينقله منه كما هو باقي الطلاب .. إلا أنا .. فكنت أشذ عنهم و أقدم تصميما مخالفا .
و رغم أن الأستاذ كان قاسيا .. و كتب علي لوحتي الأولي (حمار ) بالخط الكبير .. إلا أنني إستمريت بعند غريب في الإختلاف لاحصل علي ضعيف و ضعيف جدا ..و أرتب نفسي علي الرسوب
في نهاية العام .. كانوا يقيمون معرضا للوحات الطلاب من أولي حتي بكالوريوس ..
و كان الذى يختار رئيس القسم الدكتور الحكيم .. و بعض من مساعديه .. فوجدوا أن مشاريع السنة الثانية كلها متشابهه بحيث لن يمكنهم تعليق نموذجين .. لذلك إختاروا من تصميمات الزملاء نسخة .. و الاخرى مشروعي بعد أن مسحوا ملاحظات يحي عيد الظريفة ..
كنت أقف في المعرض أمام لوحاتي أشرح للمتفرجين .. هذه اللوحة أخذت حمار .. و هذه ضعيف جدا .. لكنها أصبحت (كبت ريكورد ) ..
و نجحت بإمتياز ..لقد كان بجوار الأساتذة السطحييين .. أخرين علي درجة من الوعي ..تعلمنا منهم كثيرا ..منهم الدكتور الحكيم الذى رعاني حتي تخرجت و حصلت علي أعلي إمتياز في مشروع البكالوريوس .
(( نتحدث باكر عن القترة من 1960 حتي 1980 المرحلة الثانية من رحلة عمرى )) .