تحتاج خريطة الشهرة فى مصر إلى مراجعة شاملة.. لم يعد المفكرون والأدباء والفلاسفة أشخاصًا معروفين، ولم يعد كبار الأكاديميين والعلماء الجادّين أشخاصًا مشهورين.
كل الشعراء، وكل الرسامين.. باستثناء نخبةٍ محدودة صاروا خارج دائرة الضوء.
لم يعد الديوان ولا اللوحة ولا الكتاب.. كما لم تعد الأفكار والأطروحات هى ما تحدِّد المكان والمكانة، بل صارت العلاقات العامة، واختراق دوائر الإعلام والإعلان.. هى ما يحدِّد ويقرِّر.
( 1 )
كان الجمهور والنقّاد هم من يرسمون خريطة الشهرة فى الماضى، أما اليوم.. فقد صار «لوبى المعدّين» هو الأقوى والأهم. حيث أصبح مُعدّو البرامج التليفزيونية هم من يقرّرون بشكل أساسى مَنْ الذى يظهر.. ومَنْ الذى يختفى.
ثم أصبح عددٌ من المعدّين.. مسؤولين إعلاميين لمصادرهم. فأصبح العمل على شهرتهم وانتشارهم جزءا من نشاطهم العلنى أو من وظائفهم السرّية.. تمّ إغلاق دائرة الشهرة بإحكام، ولم يعد هناك مشهورون جُدد بالعدد الذى يناسب التطور السياسى والاجتماعى فى مصر.
( 2 )
إن عددًا ممن اشتهر فى السنوات الأخيرة، وممّن قدمهم «لوبى الإعداد التليفزيونى» يستحق الشهرة والاحترام. لكن عددًا آخر لا يستحق أن يكون من بين المشاهدين، بمثل ما أنّ عددًا من كُتّاب الصحف لا يستحق أن يكون من بين القُراء.
إن جزءًا كبيرًا من الصدمة لا يتعلق فقط بضيوف البرامج أو كُتّاب الصحف.. بل يتعلق أيضًا بالمستوى الذى وصل إليه عدد من الإعلاميين الذين اشتهروا فى غفلةٍ من التاريخ.. ثم إنهم يواصلون فى غفلةٍ من الدولة.
من الطبيعى أن يرى هؤلاء البعض الأشياء بمرايا مضطربة.. تارةً بمرايا محدّبة تقوم بتصغير أحجام الكبار.. وتارة بمرايا مقعرة.. تقوم بتكبير أحجام الصغار.
( 3 )
لقد جاءت من بعد ذلك محنة الفيس بوك والانستجرام.. ليصبح عددٌ وفير من ضعاف العقول فى مصافّ المشهورين. وأصبح بإمكان أى شخص بهلوانى رخيص أن يكون لديه من المتابعين ما يفوق متابعى جميع أساتذة الجامعات المصرية مجتمعين.
ثم أصبح هؤلاء ضيوفًا على الشاشات وأصبحت أخبارهم فى الصحف والمجلات.. وانتعشت صناعة الجهل.. وإعادة إنتاج السَّخَف على نحوٍ غير مسبوق.
طردت العملة الرديئة العملة الجيدة، ولم يعد لمجمع اللغة العربية مكان وسط جموع «اللمبى» وحشود «حزلئوم».. وفى قولةٍ واحدة: لقد انهار المجلس الأعلى للثقافة أمام المجلس الأعلى للتفاهة!
( 4 )
كنتُ قد تحدثت فى كتابى «مصر الكبرى» عن خطورة «تحالف عديمى الموهبة» فى مصر.. وقد قرأت مؤخرًا فى إحدى الصحف خبرًا مثيرًا.. يتحدث عن لوحاتٍ تحذيرية انتشرت مؤخرًا فى الولايات المتحدة وأوروبا.. تحاول مواجهة التفاهة المتصاعدة فى العالم.
تحمل اللوحات التحذيرية التى باتت منتشرة هناك هذه العبارة: «Stop making stupid people famous» ومعناها «توقّف عن جعل الناس الأغبياء.. مشهورين».
كمْ تمنيت أن نعلّق هذه اللوحات فى بلادنا.. لتكون أساس السياسة الإعلامية، ومصر تبنى الجمهورية الثالثة. وكمْ تمنيت أن تقوم الدولة بإعادة توزيع الشهرة، ورسم خريطة طريق لمن يستحقون أن يكونوا فى موقع القدوة، ومن يستحقون البقاء فى بيوتهم حتى يغادروا إلى مقابرهم.
لستُ واحدًا ممن يؤمنون بأن الإعلام والثقافة فى بلادنا، أو فى أىّ بلد، يمكن أن يقوما أو يزدهرا بواسطة السوق الحرة، ودون تدبير أو تخطيط. ولستُ واحدًا ممن يؤمنون بأن الذوق هو الذى يصوغ القوة الناعمة.. فإذا ارتفع ارتفعت وإذا تردّى تردّت.
إننى واحدٌ ممن يؤمنون بالعكس تمامًا.. بوضع استراتيجية ثقافية وإعلامية.. تتضمن رؤية للإعلام وتخطيطًا للثقافة.
الدولة هى المسؤولة عن تردّى الذوق، والدولة هى المسؤولة عن رفعته، القوة الناعمة هى التى تصوغ العقل والقلب لأى شعب.. ولا يجب أن تخضع لتحالف الجهلاء والعملاء.
وحتى ذلك الحين.. أرجوك عزيزى القارئ.. ابدأ بنفسك:
لا تبتسم فى وجه أى مشهور تافه، لا تذهب إليه وتلتقط معه الصور، لا تُشْعِره أنه ناجح ومحبوب.. قدْر الإمكان شارك فى تجاهله وإهماله.. قُم بعقابه بطريقة سهلة وكريمة: أنتَ لا تراه، وهو لا يوجد.
عزيزى القارئ.. لا تجعل من التّافِه شخصًا مشهورًا.
حفظ الله الجيش.. حفظ الله مصر
نقلا عن المصرى اليوم
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع