لكل أزمة مهما عظمت جانب إيجابى يغفله قصار النظر، فرغم ما يحاصر مصر من أزمات جعلتها فى حالة «احتقان مزمن» يدرك الجميع أبعاده لكن جاءت كارثة «سد النهضة الإثيوبى» لتضع الجميع أمام موقف وجودى، فالنيل ليس نهرًا نستمتع بمشاهدة إطلالته الساحرة ونتنزه فى القوارب عبر مجراه الذى يرتبط بمصر وجودًا وحضارة وانحطاطًا.
وبعيدًا عن جلد الذات بما اقترفناه من جرائم بحق النهر الخالد، سواء بردم مساحات شاسعة منه ليبنى عليها الأثرياء القصور المستفزة، أو تلويثه بمخلفات المصانع، وتكدس البواخر على شطآنه بعشوائية منفّرة وغيرها، فقد أهملنا منابعه لدرجة تصاعدت نتائجها لتصل لحد تحول النيل لمجرد «ترعة» تؤثر على الزرع والضرع، والأخطر من ذلك أنها تقضى على أحلامنا بمشروعات استصلاح الصحارى بعدما تكدس الوادى نتيجة الانفجار السكانى.
وبعدما انتهت لجنة الخبراء المعنية ببحث آثار «السدّ» من تقريرها ورفعته لحكومات مصر إثيوبيا والسودان، لم تصدر عن أديس أبابا سوى تصريحات تؤكد مضّيها قُدُمًا فى مشروعها، متذرعة بأن تصميم السدّ يستند لمعايير وقواعد دولية، وأنه سيقدم مزايا للدول الثلاث، ولن يتسبب فى ضرر لدولتى المصبّ.
كان أبرز ما تضمنه تقرير اللجنة التى تضم خبراء مصريين وسودانيين وإثيوبيين إضافة لاستشاريين دوليين أنها اقترحت إجراء تقييم إضافى للآثار المحتملة للسّد، واقترحت أفكارًا وصفت بأنها ستسهم بتحقيق استفادة أفضل لدول الحوض من السد، ولغو كثير لا يحسم الخطر الداهم على الأمن القومى المصرى.
لعلها لحظة تاريخية أمام نظام حكم الإخوان، وربيبها الرئيس مرسى، ليثبتوا مدى قدراتهم على إدارة هذه الأزمة، وأؤكد أن جميع المصريين من شتى المشارب سينُحّون خلافاتهم جانبًا فى هذه المعركة الوجودية، لأننا جميعًا سندفع ثمن الفشل جوعًا وعطشا، لهذا أقترح بعيدًا عن موقفى المناهض للإخوان رؤية لعلها تحظى باهتمام، بعيدًا عن استعلائهم المعتاد.
أتوقع تشكيل «خلية إدارة أزمة» بالفعل تديرها المخابرات العامة، وتضم ممثلين من وزارات الدفاع والداخلية والخارجية، فضلاً عن الكنيسة القبطية لنفوذها الروحى تاريخيًا على كنيسة الحبشة، ومشاركة الدبلوماسية الشعبية أيضًا.
أتصور خطة تتحرك على عدة مسارات متوازية من جهة، ومتصاعدة من جهة أخرى، فوفقًا لاتفاقية ١٩٥٩ وتفاهمات ٢٠١٠ ليس من حق إثيوبيا بناء هذا السدّ دون موافقة دولتى المصبّ، وهذا هو الجانب القانونى الذى ينبغى تصعيده دوليًا بخبراء، كنت أظن أن رئيس الحكومة هشام قنديل منهم، حتى قرأت تصريحاته الباهتة التى تبدو أقرب للتوسل الخانع.
ثمة مسار آخر يخص المخابرات، فهذا الأمر من صميم مهامها، وسبق فى السبعينيات والثمانينيات أن نفّذت خططًا للضغط على الإثيوبيين الذين يتحدثون الآن بصلفٍ، ربما استنادًا لدعم إسرائيلى لم يعد سرًّا، وأهدافه واضحة هو استدراج جيش مصر الوحيد الباقى بالمنطقة لاستنزافه فى أحراش إثيوبيا، التى يحكمها نظام شمولى يواجه نحو ١٢ تنظيمًا مسلحًا تسعى لقلب النظام، وفى السياسة ومصالح الدول كل شىء مباح، فلماذا لا ندعم المعارضة الإثيوبية للضغط على ذلك النظام المتعجرف؟
كشفت إحدى وثائق «ويكيليكس» عن اعتزام الرئيس السابق ورئيس مخابراته عمر سليمان التصعيد ضد إثيوبيا، وأشارت الوثيقة التى ترجع لأول يونيو ٢٠١٠ إلى أن نظام السادات نفذ بالفعل عملية استخباراتية عام ١٩٧٦ فجّرت خلالها معدّات لبناء سدٍّ كبير، كما يحدث الآن، وجرت العملية فى المياه الدولية، وهذا خيار على خطورته لا ينبغى استبعاده، فهذه قضية حياة أو موت، وليست مجرد نزاع عادى.
ويعلم الجميع أن نظام البشير المتأسلم يرتبط بعلاقات وثيقة بـ«منظومة الإخوان» التى تحكم مصر، فلماذا لا يُنسقان عسكريًا ولو على سبيل «الردع التكتيكى»، فكلا البلدين سيتأثر سلبيًا بكارثة «سدّ الحبشة»، التى تمضى فى طريقها دون اكتراث بأحد، وبالطبع هذا سيكون آخر الخيارات، ففى قضايا الأمن القومى كل الاحتمالات واردة، حتى لا تضيع مصر فى «شربة ميه»، وآخر العلاج «الكّى».
المصرى اليوم